نص خطبة: بر الوالدين من أسباب السعادة في الدارين

نص خطبة: بر الوالدين من أسباب السعادة في الدارين

عدد الزوار: 701

2013-06-20

عالمية الرسالة والوحدة الإنسانية:

قال تعالى: ﴿إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوْنِ([1]).

أهل البيت (ع) هم الحبل المتين، من اعتصم بهم نجا، ومن تفرّق عنهم هلك وهوى. والإسلام جاء من أجل الإنسانية جمعاء، لينتشلها من عالم الضلال والجهل والشتات، إلى عالم النور والمعرفة والكمال.

والإنسان بطبعه يألف الإنسان، ومن طبيعة الإنسان السويّ أنه يألف غيرَه ويألفُه غيرُه. وحيث إن الإسلام دين الفطرة فإنه يؤسس لهذه المقولة والمبدأ القيم، إلا وهو الوحدة بين بني البشر، لذلك كانت الرسالة للبشرية جمعاء، لا لقوم دون قوم، والرسول للبشرية كلها، لا لجماعة دون غيرها، لأن منطلق الرسالة والرسول هو المطلق في وجوده، وهو الله سبحانه وتعالى واهب الوجود.

فالإنسانية تشعبت بها المشارب، وأخذتها المذاهب إلى أكثر من اتجاه واتجاه، فقد كان الناس أمة واحدة، إلا أنها تعبد الأوثان، فهنا أمة تعبد وثناً، وهنالكم أخرى تعبد وثناً، والمواقع تتعدد، والأزمنة تتابع، والمشهد يتغير من حيث أفراده، فطبقة تأتي وما تلبث أن تطوى، وهناك دول سادت ثم بادت، ولم يبق منها عين ولا أثر. ثم بعث الله الأنبياء والرسل لينتشلوا الإنسان من واقعه الملوث. وما أحدث فيه تلك الحالة من التلويث هو التفرد على حساب الأمة.

من هنا فإن مصدر الوحدة الإنسانية هو الإله الواحد، فمتى ما اتحدت الإنسانية على معبودها، وضعت حجر أساس راسخ في اتجاه الوحدة من حولها. وحيث إن الإله الواحد يؤمِّن لنا هذه القاعدة، فإن العبادة واحدة من المسارات المهمة، وعوامل الربط المحكمة التي تشد الإنسان نحو مبدئه، هذا إذا ما اتحد الإنسان على المعبود، ولا يضرّ أن تختلف الطقوس فيما بينها، ما دامت تصب في اتجاه واحد، وتتجه لوجهة واحدة. فالعبادة وإن تعددت لن تحدث تقاطعاً بين الإنسان والآخر، إنما الذي يحدث التقاطع هو أن ينفرد الإنسان بإله يختص به لنفسه، يمنع أن يكون له الامتداد للطرف الآخر، أو الأفراد الآخرين من بني الإنسان.

ولا بد للعبادة أن تحدث في الإنسان حالة من الحراك، وهذا الحراك إما أن يكون تقدمياً للأمام، أو رجعياً للوراء، فإن كان متجهاً إلى حيث البوصلة التي أرادتها السماء فهو المبتغى بأن تصب العبادة في صالح الوحدة، وإن كان الأمر على العكس من ذلك فإن الأمة سوف تذهب أدراج الرياح، وسوف يبحث الإنسان عن التشطير، ولو على حساب نفسه، فربما انشطر الإنسان الواحد على نفسه. وفي علم النفس اليوم يُعبَّر عن نوع من الأمراض بانشطار أو انفصام الشخصية، وهو لا يتعدى هذا التقديم الذي حاولتُ أن أختصره قدر الإمكان، فكم من الناس يسيرون بين أيدينا، ويتواجدون في مجالسنا، ويتحركون معنا، ويتواصلون على مأدبة، ولكن عندما نتعمق في قراءة ذواتهم نجد أن الشخص الذي أمامنا عبارة عن شخصين، لا يتصف بوحدة الإنسانية، إنما يتقلب في أكثر من قالب، وفي أحسن التقادير يكون في قالبين، ولا داعي لاستعراض العناوين، فربما استثارت بعض النفوس.

من هنا على الإنسان أن يبدأ بالوحدة من خلال دائرة ضيقة، ثم ينفتح على مساحة أكبر. فالوحدة في إطارها الضيق عبارة عن مجموعة دوائر، لا أستعرضها ببسط الكلام، إنما أقف على موضع الحاجة منها.

فهناك الوحدة الأسرية، وقوامها الأصيل الأبوان، فإن اتفق الأب والأم على أسلوب ونمط ومنهج واحد، استطاعوا أن يؤمّنوا في داخل الأسرة حالة من التلاحم والربط، وهذه هي الوحدة بين أطراف الأسرة. ولكن تذهب الأمور بعيداً بالأسر أحياناً ـ مع شديد الأسف ـ على أساس من عدم التوافق في الدائرة الأضيق والأصغر، وهي الوحدة الأسرية، فتجد الأب يشرِّق، والأم تغرِّب، ولا يدفع الضرائب الباهضة جداً سوى الأسرة.

قبسات من أنوار الإمام السجاد (ع):

وحيث إن الإمام زين العابدين (ع) أحد أطراف المناسبة العظيمة في هذا اليوم، فلا بد من الحديث قليلاً في هذا الشأن.

لقد تعرض (ع) لقساوة التاريخ بشكل كبير جداً، فهناك من لم يكتب لهم الحظ أن يشار إليهم بالبنان ولو من بعيد، لولا أنهم نهلوا من معينه، فأصحاب الطرق الصوفية، الذين بنوا فلسفة من الوزن الثقيل تتماشى مع فكرهم، عيال على الإمام زين العابدين (ع) لكنهم تنكروا له وأداروا ظهورهم.

وفي بعض مدارس المذاهب الشقيقة لدى إخواننا أبناء العامة هناك مساران، أحدهما فقهي والآخر سلوكي، وهذا المسار الأخير بدوره عيالٌ على مأدبة الإمام زين العابدين (ع) فلا طاوس اليماني، ولا سعيد بن المسيب، ولا غيرهما إلا وهم عيال على مدرسة الإمام زين العابدين (ع) ناهيك عمن جاء بعدهم، فهؤلاء ينهلون من هذا المنبع، ولكن لكم أن تلاحظوا أنه حتى على صفحات شاشات القنوات التي تعرض الكثير من الغث والسمين، لو عرضت مقطوعة مناجاة للإمام زيم العابدين (ع)، فلا تصدَّر باسمه الشريف، فلماذا تُغيَّب الحقيقة عن ذهنية الأمة؟ هذا مسار كان وما زال، وربما يأخذ مدىً حتى يحصل التغيير، الذي يبدأ أولاً من الأبوين. وبناءً على هذا فإن الأب والأم هما القوام الأساسي لوحدة الأسرة.

من هنا كان الإمام السجاد (ع) إذا وضع بين يديه الطعام وأراد أن يأكل، وكانت مرضعته على المائدة، لا يمد يده حتى تمد يدها قبله، فيسأل عن ذلك فيقول: أخشى أن تمتد يدي إلى لقمة سبقت إليها عينها قبلي.

هذا مع مرضعته، لا مع من حملته تسعة أشهر، فالمرضعة لم تقم ولا بجزء يسير مما تقوم به الأم! فلنسأل نحن: ما هو حالنا مع آبائنا وأمهاتنا؟.

وسوف لن أبحر بعيداً في هذا الشأن، وأقتصر على بعض النصوص. فمما لا شك فيه أن برّ الوالدين هو أفضل الأعمال بعد الصلاة. يقول ابن مسعود: «سألت رسول الله محمداً (ص): أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: الصلاة لوقتها. قلت: ثم أي شيء؟ قال: برُّ الوالدين...»([2]).

  فبرّ الوالدين قيمة إسلامية عالية إذا ما تفاعل الإنسان معها وفعّل أدوارها في داخله وبسطها على أبنائها في بيته. فالبر يقابله العقوق، تلك صفة كمال وهذه صفة سلب، وبقدر ما يؤثر عامل الإيجاب والكمال، وهو صلة الرحم، وبر الوالدين، بقدر ما يحدث العقوق وقطيعة الرحم من الخلل والإسقاط. فأثر دعاء الوالدين للأبناء أو عليهما واحدٌ من منجزات البر بالوالدين أو ما يترتب على عدم القيام بالواجب تجاه الأبوين.

قال الإمام (ع): «ثلاث دعوات لا يُحجبن عن الله: دعاء الوالد لولده إذا برَّه، ودعوته عليه إذا عقَّه. ودعاء المظلوم على من ظلمه، ودعاؤه لمن انتصر له منه. ورجل مؤمن دعا لأخٍ له مؤمن واساه فينا، ودعاؤه عليه إذا لم يواسه مع القدرة عليه، واضطرار أخيه إليه»([3]).

أيها الأحبة الأعزاء: لنتأمل في هذه النصوص التي لم يكتبها مؤرخ، ولم يسطرها صحفي، ولم يحبرها حكيم، إنما حبّرها سيدٌ من سادات الحكمة على وجه الأرض، بل هم الذين ختموا الحكمة بطابعهم الأنور، وهم محمد وآل محمد (ص). 

فالدعاء الأول الذي لا يُحجب هو دعاء الوالد لولده، بشرط البرّ، فقد يدعو الوالد لولده من باب اللابُدّية، إذ لا يجد مناصاً من ذلك، لكنه يدعو أحياناً وهو يرى أن ذلك مسؤولية؛ لأن الولد قام ببره. فهذه الدعوة مستجابة لا تحتاج إلى ملك يسافر بها.

آثار العقوق:

ومن هذه الدعوة أيضاً دعوته عليه إذا عقّه. ومساحات العقوق كثيرة، منها أن يشيح بوجهه عنه، فالبعض لا يروق له أن يكون أبوه معه في مكان ما، ويتضايق إذا دخل عليه في استراحة. والبعض قد يبلغ أكثر من هذا، حتى يتمنى الخلاص من أبيه بالموت. أو أن يبلغ الأبوان مرحلة من الكبر لا حول ولا طول لهما فيها، فيعمد الولد إلى إحدى الجمعيات الخيرية أو المؤسسات الإنسانية أو بعض المستشفيات للتخلص منهما. وهناك ضروب أخرى من العقوق.

فإذا دعا أحد الأبوين أو كلاهما على الولد، وهو في مثل هذه الحال من العقوق، فلا حجاب بين هذه الدعوة وبين الله سبحانه وتعالى، وسوف تكون النتيجة مرعبة للولد، حيث يبتلى في ماله وعياله ونفسه وفي كل شيء.

كان أحدهم يتنكر لوالده، بحيث لا يروق له أن يذكر اسم أبيه في مجلس هو فيه، فكانت النتيجة أنه صار يفقد أبناءه واحداً بعد الآخر.

انظر إلى هذا وإلى إمامنا زين العابدين (ع) الذي لا يمد يده إلى طعام ومرضعته على المائدة، خشية أن تكون سبقت عينها إليه.     

 أما آثار عقوق الوالدين ومردوداته على الفرد فكثيرة، منها:

1 ـ البلاء: وفروضه ومصاديقه كثيرة، يقول الرسول الأعظم محمد (ص): «إذا عملت أمتي خمس عشرة خصلةً حل بهم البلاء: إذا كان الفيء دولاً، والأمانة مغنماً، والصدقة مغرماً، وأطاع الرجل امرأته وعصى أمه، وبرّ صديقه وجفا أباه، وارتفعت الأصوات في المساجد، وأُكرم الرجل مخافة شره، وكان زعيمُ القوم أرذلَهم، ولبسوا الحرير، واتخذوا القينات والمعازف، وشربوا الخمور، وكثر الزنا، فارتقبوا عند ذلك ريحاً حمراء، وخسفاً، أو مسخاً، وظهور العدو عليكم ثم لا تُنصرون»([4]).

وهل هناك بلاء أكثر مما نرى اليوم، حيث يذبح الناس كالخراف في أكثر من مكان ومكان؟ لا في سوريا فحسب، إنما في أماكن أخرى من العالم. انظروا ما يحدث في ميانمار، حيث تُباد قرىً بأكملها من المسلمين، فلا يطرف لأحد جفن. أليس هذا بلاء؟

يذكر التاريخ أن المعتصم العباسي ـ وهذا الشاهد أورده لإيقاظ الأمة على مستوى قياداتها التي ترى في المعتصم قدوة ـ بلغه أن امرأة مسلمة في بلاد الروم، تعرضت لإهانة من أحد الجنود، حيث جذبها من معصمها، أو أنه أراد انتزاع الحلي من معصمها، فسقطت على الأرض، ونادت: وامعصماه، فسمعها أحد المسلمين تستغيث، فأبرد إلى الخليفة في بغداد، فجهز جيشاً إلى عمورية، وهزم الروم هناك.

فمن الخصال التي ذكرها النبي (ص) أن يعقَّ الرجل أمه ويطيع امرأته، وقد ورد في رواية أخرى عن النبي (ص): «يأتي على الناس زمانٌ إذا سمعت باسم رجل خيرٌ من أن تلقاه، فإذا لقيته خيرٌ من أن تجرِّبَه، ولو جربته أظهر لك أحوالاً، دينهم دراهمهم، وهمتهم بطونهم، وقبلتهم نساؤهم، يركعون للرغيف، ويسجدون للدرهم، حيارى سكارى، لا يهود ولا نصارى»([5]). فالمرأة عندهم هي القبلة، وليست الكعبة المشرفة، فلا مكان بعد للأم بعد أن حلت محلها الزوجة.

ومثل ذلك أن يبرّ المرء صديقه ويجفو أباه، والعياذ بالله، وهو ما نرى له أمثلة كثيرة في زماننا. فإذا حصل مثل ذلك، فلتنتظر الأمة البلاء المبرم.

ويقول النبي الأعظم محمد (ص) في ذكره الآثار المترتبة على العقوق: «خمسة لا تُطفى نيرانهم، ولا تموت أبدانهم، رجل أشرك، ورجل عق والديه، ورجل سعى بأخيه إلى السلطان فقتله، ورجل قتل نفساً بغير نفس، ورجل أذنب وحمل ذنبه على الله عز وجل»([6]).

هذه بعض النتائج والآثار المترتبة على عقوق الوالدين، أما في القيامة فحدث ولا حرج ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُوْدُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوْدَاً غَيْرَهَا لِيَذُوْقُوْا العَذَابَ([7]).

قال رجل لرسول الله (ص): إن والدتي بلغها الكبر، وهي عندي الآن، أحملها على ظهري، وأُطعمها من كسبي، وأميط عنها الأذى بيدي، وأصرف عنها مع ذلك وجهي استحياءً منها، وإعظاماً لها، فهل كافأتها؟ قال (ص) «لا، لأن بطنها كان لك وعاءً، وثديها كان لك سقاءً، وقدمها لك حذاءً، ويدها لك وقاءً، وحجرها لك حِواءً، وكانت تصنع ذلك لك وهي تتمنى حياتك، وأن تصنع هذا بها وتحب مماتها»([8]).

 

أيها الشباب: إن الذي دعاني لهذا مع أن المناسبة للفرح، هو شح الأنفس، وضيق الأفق عند البعض، وأسأل الله تعالى أن لا يبتلي أحداً بمثل هذه الابتلاءات، فهي غير قابلة للتصحيح كما في امتحانات المدارس والجامعات. فالله الله في الآباء والأمهات، الله الله بهم، الله الله بهم؛ لأن سرّ نجاح المرء في هذه الحياة أو فشله هو الآباء والأمهات. فإن أردت سعادة دائمة فبالأب والأم، وإن أردت شقاءً فبهما، وهو ما تؤكده النصوص السابقة وغيرها.

نسأله تعالى أن يحفظنا، ويحفظ الإسلام والمسلمين في أنفسهم، وأن يبصرهم دائرة السوء التي تراد لهم، فهناك اليوم يدٌ صهيونية تعبث بجميع الأوراق، لا تميز بين مذهب وآخر، فالشيعي يُقتل، والسني يُقتل، صغيراً أو كبيراً، رجلاً أو امرأة، والدول تُدَمَّر وتُقسَّم، وأقول كلمة احفظوها عني: إن القادم أعظم، إذا لم تلتفت الأمة لحالها، وتنهض من كبوتها، وتراجع الحسابات.

وأختم بمقطوعات ثلاث قصيرة، الأولى للسبط الشهيد، والأخرى لقمر بني هاشم، والثالثة للسجاد (ع):

للسبط (ع) أقول:

 عندما  لاحت شموس الأتقياء

قلت  يا  لله  من هذا iiالضياء
فهنا   قبسٌ   سما   في  نوره
طبق  الأرض وأطراف السماء
بينما    أسأل   عن   iiمدلوله
وإذا  المدلول أصحاب الكساء
قلت   يا  لله  هل  نبقى  هنا
أم رؤى الأحباب فيضٌ وعطاء
وقتها   عدت   إلى   ذاكرتي
ولد   السبط   فأديت الصلاة

ولقمر بني هاشم أقول:

هذه    الجنة   والحب   الذي
يملأ   القلب  بأسرار  الصفاء
يتماهى   مشرقاً   حاطت  به
نجمة  خجلى  تغشاها  الحياء
وإذا   البسمةُ   خطت   معلماً
شعّ  بالأنوار  من أهل iiالعباء
قلت   هذا   قمرُ  الآل  الذي
سطر الإعجاز في جمع الإباء
كربلاء   سرها   في  شخصه
روضة  الحق  وأجزاء الصلاة

أما لصاحب القبر المهدوم (ع) فأقول:

طيبةٌ    هذي   سما   مصداقها

عندما   فازت  بأبناء  الرسول
فلنعرج    نحوها   في   جمعنا
نقرأ   النص  وأسباب  النزول
ولنغنِّ    وصلها    في   غبطةٍ
قيمة   اللحن  إذا  تم  الوصول
فاسأل   الصوفي   عن  أوراده
من سوى السجاد جلاها الحلول
ربما    أنت    فما   شأني   أنا
شفرة   الإيمان  ترديد الصلاة