نص خطبة:الفتنة والامتحان في واقع الأمة (1)
«دخل ابن شبيب على الإمام الثامن الضامن علي بن موسى الرضا (ع) فقال له الإمام الرضا (ع) : يا بن شبيب، إن بكيت على الحسين (ع) حتى تسيل دموعك على خديك غفر الله لك كل ذنبٍ أذنبته صغيراً كان أو كبيراً، دقيقاً أو جليلاً. يا بن شبيب، إن سرك أن تكون معنا في الغرف المبنية في الجنة فالعن قتلة الحسين. يابن شبيب، إن سرك أن يكون لك من الأجر مثل ما لمن قتل مع الحسين (ع)، فقل متى ذكرتهم: يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً. يا بن شبيب، إن سرك أن تكون معنا في الرفيق الأعلى، فافرح لفرحنا، واحزن لحزننا، وعليك بولايتنا، فلو أن أحداً أحبَّ حجراً لحُشر معه يوم القيامة» ([1]).
الأمة التي ابتليت بالحسين (ع) وامتحنت به، لم تستطع أن تتجاوز ذلك الابتلاء والامتحان إلا بإخفاقات قاتلة، خلا كوكبة ساعدها الإيمان الثابت، والطاعة المطلقة لأهل البيت (ع) في أن يبحروا من تلك الدائرة الصعبة الحرجة.
وفي الحديث الشريف عنهم (ع): «وسيقبض العلم، وتظهر الفتن» ([2]).
والفتن جمع فتنة، وهي في اللغة الاختبار، فالفتنة والبلاء والامتحان مفردات متعددة، أما المعنى فهو واحد بالظاهر. وأنا لست مع من يحاول أن يجمع بين معطيات الألفاظ في موضوع الترادف، إلا في موارد تخرج بقرينة مخصِّصة، وإلا فإنّ كل لفظ، وإن اشترك في الدلالة مع لفظ آخر على معنىً ما، فإنه لا يخلو من خاصية تميزه عن ذلك التركيب الآخر. فالبلاء والامتحان للفرد والأسرة والأمة والحاكم والمحكوم والعالم والمتعلم تعترضنا في أكثر أوقاتنا، فبعضنا يستطيع أن يتجاوز الامتحان في دائرته الأدنى، لكنه سرعان ما يخفق إذا ما تمت جرجرته إلى دائرة أشد من سابقتها، وهذا واضح حتى في حياتنا اليومية، والإخفاق أو الفشل أو غيرها، هي من المفردات التي كثيراً ما نستخدمها في الدارج من محاوراتنا، حال أن مسافة المفارقة بين الإخفاق والفشل بعيدة جداً، ومن الجميل ـ أيها الأحبة ـ أن لا نكرّس معطيات الفشل في أوساطنا، وعلينا أن لا نتعاطى الأمور التي لا نحقق نجاحاً فيها على أساس من الإخفاق، لأن الإخفاق يستتبعه حركة، وثمة مجال لمراجعة الحسابات في أجواء مساعدة خارج دائرة الضغط النفسي الداخلي، والضغط المحمول على الإنسان من الخارج، أما الفشل، فإذا ما تعاطيناه خصوصاً مع النشء من أبنائنا، فمعنى ذلك أننا أسهمنا في تكريس هذه الحالة عند الناشئ، شاباً كان أو فتاة. لذا نجد في مفردات أهل البيت (ع) أنهم يحاولون النأي بأتباع مدرستهم عن الإرباك في ذهنية المتلقي على أساس المفردة، فكلماتهم (ع) ـ وهي دون كلام الخالق وفوق سائر كلام المخلوقين ـ فيها من المقاربة مع مساحة الاحتياج الشيء الكثير.
من هنا فإننا لو فتشنا في كلام العرب قديماً وحديثاً عن ساداتٍ للبلاغة، فلن نستطيع أن نعثر على من يجسد هذه الحقيقة بنسبة مطلقة إلا محمد وآل محمد.
كانت الفتنة قدر الأمة، وقد أسهمت هي في تكبيل نفسها بها. يقول النبي الأعظم (ص): «ليغشين أمتي من بعدي فتن كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً، يبيع أقوام دينهم بعرض من الدنيا قليل» ([3]).
إن الذين ساروا في ركاب الحسين (ع) من المدينة إلى مكة، ليحجوا بحجه كثر، إلا أنهم كانوا ممن يتعاطى الإيمان في حدود العبادة المستفرغة من العلم، لذلك نرى أن الإمام الحسين (ع) ما إن وصل إلى مكة، وعلم أن الطلب أدركه، وحل إحرامه ـ على قولٍ يحتاج إلى نظر من حيث الدلالة الفقهية ـ إلا ودخل ذلك الجمع والخلق الكثير في دائرة الامتحان، في حين أنهم لو كانوا يحملون إيماناً يتوازى مع التمظهر بصور العبادة لحلوا إحرامهم، لأن إمامهم قد حل إحرامه، لكنهم حافظوا على الشكل الظاهري من الإيمان، ألا وهو التعاطي مع نسك الحج. بل إنهم لم يسألوا الحسين (ع) حين حلّ إحرامه، وكأنه لا يعنيهم إلا في حدود مساحة ضيقة مع شديد الأسف.
وخرج الحسين (ع) من مكة وليس معه إلى جماعة قليلة، ثم التفت إليهم وهو في عسفان، على الطريق بين مكة والمدينة، وخطب فيهم قائلاً: «من كان فينا باذلاً مهجته، موطناً على لقاء الله نفسه، فليرحل معنا، فإني راحلٌ مصبحاً إن شاء الله» ([4]). فرجع جماعة، ولم يبق معه إلا الصفوة.
ولما وصل «زرود»، كان له موقف ليمحص القوم، فلم يبق معه إلا تلك الكوكبة التي حنى الدهر هامته إجلالاً لهم وتعظيماً، فلولاهم لما حججنا ولا صلينا ولا تآمرنا بمعروف ولا تناهينا عن منكر.
وبالنتيجة، فإن تلك الجماعة لم تتجاوز مرحلة الفتنة، لأنهم لم يعدّوا لها عدتها، كمن يدخل إلى قاعة الامتحان دون تحضير واستعداد، فتكون نتيجته محسومة مسبقاً.
إن الامتحان صعبٌ عسير، فكلنا نطأطئ رؤوسنا للمهدي، وندعو له بالفرج، إلا أننا لم نمتحن به بعد.
يقول المولى علي (ع) وهو يحذر من الفتنة، كيف تتشكل وتتبلور: «ألا فالحذر الحذر من طاعة ساداتكم وكبرائكم... فإنهم قواعد أساس العصبية، ودعائمُ أركان الفتنة» ([5]). فهذا النص يحكمه زمن هو زمن الخلافة، وموقعٌ هو الكوفة، لكن الإمام علياً وآل محمد (ع) عندما يتحدثون، فإنهم لا يقيدون اللفظ، ولا يأسرونه، بل يرنو كل واحد منهم (ع) إلى ما استبطنه ذلك اللفظ من دقة في المعنى، فإن قيّدنا اللفظ في قالبه، فإن المعنى سيكون له من السراية ما يستعصي على التقييد, فكأن الإمام يعنينا نحن.
إن السادات والكبراء كثيراً ما يشغلهم أمر عن أمر، وقد يتمثل هذا في الأب أو في المسؤول أو غيرهما، فيكون اتّباع الهوى سيد الموقف. فكم من أناس لم يكن لهم حظوة، إلا أن بعضهم عندما حصل عنده شيء من الحظوة طغى وتكبر. وعندما تُقلِّب وريقات التاريخ فسوف تجد أناساً سُجلت أسماؤهم، وكان لهم حضور، إلا أن معظم هؤلاء يصدق عليهم عنوان الكبراء والسادة الذين يؤسسون قواعد الفتنة والعصبية والخطيئة في وسط الأمة.
إن الذين قاتلوا النبي (ص) قبل البعثة أو بعدها في منهجه، ونابذوا علياً (ع) أو حاربوا الحسين (ع) إنما تحركوا على أساس مبدأ الإصغاء للسادات والكبراء. وقد نبه القرآن الكريم على ذلك منذ اليوم الأول حيث قال: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقتدون﴾([6]).
فإذا كان الكُبّار يتحركون على أساس من الوازع الديني والمصلحة العامة وحب الآخر، فينبغي أن نُصغي إليهم، ونجعل من أنفسنا تبعاً لهم، أما إذا تحول الملاك من الإيمان إلى الهوى والرغبات الجامحة في عالم الدنيا والمادة، وكانت الخطط والغايات إسقاط وإفشال وتضييع الحقوق عن أهلها، فنحن لسنا معهم، كائناً من كانوا، وإن تَعنْوَنوا بأكبر العناوين التي ألفناها منذ صبانا وإلى يومنا هذا.
يقول الإمام علي (ع): «يأتي على الناس زمان لا يبقى فيهم من القرآن إلا رسمه، ومن الإسلام إلا اسمه، ومساجدهم يومئذٍ عامرة من البناء خراب من الهدى، سكّانها وعمّارها شر أهل الأرض، منهم تخرج الفتنة، وإليهم تأوي الخطيئة، يردُّون من شذ عنها فيها، ويسوقون من تأخر عنها إليها»([7]).
بالأمس كان مسجد السوق أو مسجد القبيلة، أما اليوم فقد اختلف الأمر، حتى أن بعض الحكام اليوم أصبحوا يعيشون هذا الهوس، وأن يكون المسجد الأكبر عند أحدهم. وإذا كان هذا هو الميزان والمعيار فهي الصنمية، بما تحمل الكلمة من معنى. إن المسجد مدرسة ودار عبادة وإشاد، لا أنه مجموعة من الأحجار تزينها بعض الزخارف.
فالمساجد آنئذٍ « عامرة من البناء، خراب من الهدى » فأنت تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى، فالقاتل والمقتول، والظالم والمظلوم، والسارق والمسروق، ومرتكب الفاحشة والمجني عليه كلهم جنباً إلى جنب. « منهم تخرج الفتن وإليهم تأوي الخطيئة » وهذا محل الشاهد، لذا نقرأ في الحديث الشريف: «لا تنظروا إلى طول ركوع الرجل وسجوده»([8])، فلا تنظروا إلى كثرة تردد المرء إلى بيوت الله، فقد نظنّ أن من لا يأتي للمسجد من الناس هو من البعيدين عن الله تعالى، وهذا ظلم وتجنٍّ وتعدٍّ، فربما كان قد اصطدم بموقف في يوم ما، وربما يمنعه من الدخول إلى المسجد وجود صاحب جنحة، فهو لا يأتي لهذا السبب.
من هنا نعرف السر في كون الإمام أمير المؤمنين (ع) جلس في بيته ربع قرن من الزمان، ثم جاء ليخوض خمس سنوات من الحروب الطاحنة، بقي سيفه يقطر من دمائها، وكذا السر في كون الإمام الحسن (ع) يصالح.
كنت أستحضر ضمن ما أستحضر من النصوص التي أجبرت الإمام الحسن (ع) على الصلح مع ملك الشام([9])، فوجدت نصاً، ورد حتى في كتبنا ـ مع شديد الأسف ـ وهو أن الإمام الحسن (ع) صالح رغبةً في البقاء على نفسه. ثم يبين النص الفوارق بين الحسن والحسن (ع) منذ الولادة، وأن خصائص الحسن (ع) تختلف عن خصائص الحسين (ع) فلا نتوقع منه أكثر من ذلك. فهذا نهض، وذلك قعد. ولكن عندما تقرأ في حياة الإمام الحسن (ع) وترى ما اعترض طريقه من الفتن، فلربما ثار ذلك فيك الحمية، واستدر الدمع أكثر مما تستدعيه كربلاء، بما فيها من مشهد مأساوي دموي، إلا أن مشهد كربلاء سجلته ودوّنته الدماء، لكن ما جرى مع الإمام الحسن (ع) كان مأساة بشكل مختلف.
فعندما قدم على القتال دخل عليه جملة من أصحابه من حملة الألوية، حتى قال له بعضهم: أشركت يا أبا محمد كما أشرك أبوك من قبل. وبعد التوقيع مع ملك الشام قال له: كفرت يا حسن كما كفر أبوك. أما النص الثالث، فأقوله وأنا أعتذر من الإمام الحسن (ع) فقد دخل عليه أحدهم الخباء وحركه برجله! وهو ممن يراهن عليه الإمام الحسن (ع) في ميزان المعركة، وتفوه بكلمة يتفطر منها الحجر الأصم فقال: سود الله وجهك يا حسن، أذللتنا يا مذلّ المؤمنين. هذه هي الفتنة والبلاء والامتحان والاختبار.
ولكن من أهم النتائج التي تترتب على فتنة التمحيص، فلا بد أن يغربل المرء ويمحّص، والتمحيص والغربلة كلها لتمييز الخبيث من الطيب: ﴿ليميز الخبيث من الطيب﴾.
أسباب الفتنة:
المعروف أن الإمام الحسين (ع) وصل إلى كربلاء مع سبعة عشر من أهل بيته وسبعين أو مئة وعشرين من أنصاره ـ كما يذكر المحدث السيد محسن الأمين رحمه الله ـ وحصل ما حصل. وكان ذلك الابتلاء والامتحان. ولكن لنسأل أنفسنا نحنُ: ماذا كان يحدث لو كنا ذلك اليوم مع الإمام الحسين (ع)؟
ولنسأل أيضاً: لم هذه الفتنة المصاحبة للإنسان؟ وما أسبابها؟
للجواب عن ذلك نقول:
من أسبابها:
1 ـ غياب الصلاح وسيادة الشر على المشهد: وهو من الظواهر الفاشية التي تربك الوضع، فغياب مشهد الدين عن قضايانا يُعدُّ كارثةً كبرى، فالدين يجب أن يكون هو المعيار والميزان الذي نعرض عليه أعمالنا ونغربلها.
وعن هذا البعد تنحلّ مجموعة من الأمور، منها غياب أهل الصلاح، فمن المعروف أن لكل زمان دولةً ورجالاً، من أهل الحق أو الباطل، ولا إشكال أن أبناء اليوم على درجة عالية سامية من الإيمان والخلق والأدب الرفيع، لكننا بعملية حسابية بسيطة نرى غياب جيل كبير من العلماء اليوم، ففي يومٍ ما كان وسط الأمة الإمام الحكيم والإمام الخوئي والسيد علي القاضي الطبطبائي والإمام الشهيد الصدر الأول والشهيد الصدر الثاني والإمام الراحل الإمام الخميني رحمهم الله جميعاً. هذا في طبقة العلماء، أما رواد المنبر الحسيني، فكان الشيخ الوائلي والسيد جواد شبر والشيخ النويني والشيخ عبد الزهرة الكعبي والشيخ هادي الكربلائي والسيد جابر الأغائي رحمهم الله جميعاً، هؤلاء الذين سافروا بفكر كربلاء. وإلى جانب هؤلاء جمعٌ من المؤمنين الذين تحيا المجالس بحضورهم وتفاعلهم. هؤلاء الخطباء الذين ذكرتهم كانوا يشفعون العَبرة بالعِبرة، والدمعة بالموعظة والبناء الفكري وتحصين الأمة من الضياع.
ولو أن واحداً من جيل الخمسينات من أمثالنا، استرجع صوراً قبل ثلاثين عاماً، وتذكّر جده أو خاله أو عمه أو أمثال هؤلاء من كبار السن، وكيف كان حالهم وطريقتهم وكيف كانوا يتعاملون مع عاشوراء؟ فاليوم يدخل إلينا عاشوراء ويخرج منا ـ مع شديد الأسف ـ ولم نقترب منه بقدر ما اقترب هو منا. فما الذي نطلبه من الحسين (ع)؟ هل نطلب أكثر مما قدّم؟ ما الذي بخل به الحسين (ع) ؟ ألم يبلغ الذروة في الجود والعطاء؟ والجود بالنفس أقصى غاية الجود؟
إن الحسين (ع) بقدر ما ضحى فإنه ينتظر الاستجابة منا، وما هي إلا عشرة أيام، موسم بيع وشراء مع الحسين (ع).
أيها الشباب الطيب المبارك، الذي نقرأ في وجهك أكثر من إشراقة وإشراقة، طبعها على وجهك ومحياك نهج الحسين (ع) ومدرسته وتضحيته وصبره، إن الحسين (ع) يدعوك فأجبه، ومجالس الحسين تنتظرك فتردد عليها.
2 ـ غياب دور العلماء: فها أنت تدخل اليوم إلى حسينية الحي الذي فيه من رجال الدين أكثر من عشرة أو عشرين، فلا تجد فيها إلا الخطيب. فمن حق العامي أن يتساءل: لم هذه الظاهرة؟ أنا أتذكر في حسينية العتبان، وهي حسينية العم الشيخ حسين الخليفة، كان في بعض الليالي ـ لا سيما الوفيات والمناسبات المهمة ـ يحضر الشيخ محمد باقر أبو خمسين رحمه الله، والشيخ محمد الهاجري، والسيد كاظم من الرميلة، وآية الله الشيخ عبد الله الخليفة، الذي كان يأتي مشياً على القدمين من السوق إلى الحسينية، وكان العم الشيخ حسين الخليفة حاضراً، وكذلك الشيخ محمد الناصر، فكان يجتمع في مسجد العتبان أكثر من ثمانية أو تسعة من رجال الدين من أصحاب الثقل الكبير، وممن يشكل الواحد منهم كياناً قائماً بذاته. فكانت هناك وجوه كالأقمار، تضفي على المجلس حيثية خاصة. أما اليوم، فما الذي حصل لرجال الدين؟ هل أننا تشبّعنا بالمجالس الحسينية حتى صرنا لا نحضرها؟ أما يعلم رجل الدين كم من الأثر ينعكس على أهل الحي عندما يحضر معهم ويشاركهم في مراسمهم؟
عندما نطلب من الشباب الحضور، ونؤكد ذلك، أليس من حق الشاب أن يسأل أباه: إن هذا الذي يأمرنا بالحضور ويشجعنا عليه لم نره يوماً في الحسينية ﴿أَتَأْمُرُوْنَ النَّاسَ بِالبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ﴾([10])؟
بل إننا وصلنا إلى حال أسوأ من تلك، ففي مجالس الفاتحة نرى البعض يتحدث مع غيره بانطلاق، ويشرب الشاي بهدوء، ولديه من الوقت ما يكفي لذلك، لكنه بمجرد أن يسمع بصعود الخطيب إلى المنبر، يغادر المكان بحجة أنه مشغول وليس لديه وقت. ولو أنه جلس واستمع لكان له الأثر الطيب عند ذوي الفقيد على الأقل، بغض النظر عن الثواب.
لو تصورنا أن الحسين (ع) قال لمثل هؤلاء في اليوم العاشر: تقدموا، فماذا نتوقع أن يكون جوابهم؟
من جهة أخرى أقول للشباب: إن غياب رجال الدين لا ينبغي أن يكون مبرراً، فبقدر ما أنه لا يترك لهم مساحة للعذر، فإنه لا ينبغي أن يكون شماعة نعلق عليها تبريراتنا في عدم الحضور، فمن يغيب عن المجلس الحسيني هو الخاسر، ويجب أن لا نشاركه الخسارة.
3 ـ تفشي الجهل: وهو من أسباب الفتنة أيضاً، فمن أمثلة ذلك أن المرأة تريد أن تحضر المجلس الحسيني، والرجل لا يريد ذلك، فيحدث الخلاف، حتى يصل الأمر أن يخيرها بين أمرين: إما المجلس أو بيت الأهل. وأنا لا أتكلم عن خيال، إنما هو واقع أستطيع أن أدلل عليه وأذكر الأسماء، وليس هذا من متدين، إنما من أهوج أرعن. فما المانع أن تذهب المرأة لتشاطر الزهراء (ع) حزنها على الحسين (ع) وتواسي زينب (ع) ؟
إنك ترى مثل هذا الرجل يقضي ساعات من الليل في جلسات لا طائل من ورائها ولا فائدة، ولا أريد أن أقول غير ذلك، ولم يكن همه في تلك الساعات زوجته أو عياله، ولم يفكر فيهم، أما الساعة الواحدة أو أقل للحسين (ع) فتقوم لها الدنيا ولا تقعد. ولكن في المقابل نقول للمرأة: ليس من المناسب أن تتركي واجبات العيال والبيت والزوج، ولا بد من الموازنة، فما كان للبيت للبيت، وما كان للحسين للحسين، فليس من المناسب أن تخرج المرأة من الصباح حتى الظهر، وتترك العيال بلا غداء.
وبهذه المناسبة أنبّه الأخوات إلى أن الحسين (ع) إنما قُتل من أجل العفة والحشمة والإيمان والصلاح، فيجب على المرأة التي تذهب إلى مجلس الحسين (ع) أن تراعي حجابها إلى أقصى حدود ما فرضه الشرع عليها، سواء في لبسها، أم في غض الصوت والبصر. فمن تأتي للمجلس الحسيني بلباس غير محتشم، أو تأتي إلى المسجد بلباس غير محتشم، فإنها تجرح الزهراء والحوراء زينب عليهما السلام. لاحظوا أن زينب (ع) لما سقط الرداء عن وجهها وضعت يديها على وجهها، وقد قنّعها اللعين بالسوط، وقبلها الزهراء (ع).
إني أؤكد حتى على الأطفال، فالأم التي تجلب ابنتها الصغيرة للجامع عليها أن تعرف أن هذه الطفلة ذات الخمس أو الأربع، مرآة تعكس واقع الأسرة والأم، فإن كان لبسها محتشماً يتناسب مع واقع الجامع والحسينية فالناس يقرؤون الأم من خلال تلك البنت. صحيح أنها ليست مكلفة، إلا أن التأديب والتهيئة لا تبدأ من التكليف، فهناك الكثير من النصوص التي تؤكد أن التأديب والتمرين يكون ما دون سن التكليف.
أسأل الله تعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.