نص خطبة: العلم أساس التعقل في الحياة
فضل العلم ومنزلته:
حظي العلم باهتمام خاص من قبل الشارع المقدس، لذلك حثَّ على طلبه من المهد إلى اللحد، وجعله فرضاً على كل مسلم ومسلمة. والألف واللام في العلم للاستغراق، فهو شامل لجميع أنواع وأصناف وتشعبات العلوم. صحيح أن علم الأديان يحظى بخصوصية عند المشرِّع، لكن المتتبع المنصف لنصوص الشريعة المقدسة، إذا تعامل معها على أساس المصدر الأول، وهو القرآن الكريم، المنزل على قلب الحبيب المصطفى محمد (ص) أو على أساس السنة المطهرة الصادرة عن محمد وآل محمد (ص)، يجد أن الألف واللام إذا ما دخلت على اسمٍ، أعطته شمولية، حتى تُنصب القرائن المضيَّقة، لأن الألف واللام تفيد الاستغراق.
ثم إن العناية بالعلوم الدينية لها أسبابها أيضاً، سواء تعاملنا مع النص في وقت صدوره، أم أطلقنا العنان لأنفسنا لنتقدم معه رويداً رويداً؛ لنتخطى الدول والمؤسسات التي نهضت بأمور المسلمين عبر التاريخ حتى يومنا هذا. فالعلم شرفٌ وكرامةٌ وسلاحٌ، والأفراد الذين لا يحظون بنصيب من العلم، تُحفظ لهم خصوصياتهم ومقاماتهم ومواقعهم، ولكن يبقى هذا الوسام الرفيع في منأىً عنهم.
ومما ينبغي التنافس فيه بشدة المقامات العلمية، وهي ليست وقفاً ولا حكراً على أحد، إنما الناس فيها شرع سواء، شركاء متساوون، وهو ما تفيده النصوص الواردة عن أهل البيت (ع).
وبالنتيجة نحن اليوم أمام فراغ كبير، والطرق فيه متشعبة، والضمانة الوحيدة لنصل إلى ما هو المرجو هي أن نتسلح بالعلم. فالأمم والمجاميع والفئات والطوائف، ما لم يتحقق فيها الاكتفاء الذاتي الذي يولِّد فيها اقتداراً على الحركة والتغيير تبقى تراوح مكانها، هذا إذا لم يعفُ عليها الزمن، وكم من المجاميع والطوائف والفئات والطرق، كان لها في يوم من الأيام نصيب من العنوان، فأصبحت اليوم في طيِّ النسيان، بل كان بعضها يشغل مساحات من تسليط الضوء لا يجاريها فيه كثير من أمثالها من الطوائف والفئات والمجاميع.
مصادر العلم:
وللعلم مصادر، فالمصدر الأول له هو الله سبحانه وتعالى، كونه المعلم الأول: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾([2]). والأسماء التي عُلِّمت لآدم (ع) ـ كما هو منطوق الكثير من النصوص ـ هي عبارة عن مفاتيح ما في الكون، وهي أسماء نورانية خُطَّت على العرش: «محمد، علي، فاطمة، حسن، حسين». والكلمات التي تلقاها آدم من ربه، وفق مصادر مدرسة أهل البيت (ع) هي هذه الكلمات.
والنبي الأعظم (ص) عندما استدنى علياً (ع) ـ وهو الإمام بالحق ـ وضمه إلى صدره، فقد أفرغ عليه من علمه، ثم سُئل عليٌّ (ع) عن ذلك فقال: «حدثني ألف باب، يفتح من كل باب ألف باب»([3]). وهذا الوصف بالحسابات الطبيعية غير كاف، ولا يصلح له إلا حساب ما وراء الطبيعة، إذ إن له خصوصيته المناسبة للمقام. فالمعلم هو الله تعالى، والواسطة في الفيض هو محمد (ص) والمتلقي هو علي (ع).
إن الآيات الشريفة تنص على أن الله تعالى: ﴿عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾([4])، لكننا نجد أن آدم (ع) وقع فيما وقع فيه، لأنه لم يتلقَّ بعدُ تلك المفاتيح التي على أساسها يجتاز الامتحان.
وأهمس هنا همسة في أذن كل محبّ فأقول: إذا أردت أن تتحرك في أمرٍ، وتحقق الإنجاز فيه، وتحافظ على روح تحقيق الانتصار أو الفوز أو التقدم، فابدأ بهم، وسر معهم، واختم المطاف بهم، فإن صَحبَتْك هذه الكوكبة، وصحبتَها عن وعي وعقيدة، فستُحَلُّ أمامك جميع المشاكل، وتنتهي إلى ما أردت.
فالإنسان الأول كان جاهلاً، ثم لُقِّن العلم من قبل المعلم، فأصبح أعلم من على وجه الأرض، وهذه الجزئية يجب أن نمسك بها، ونتخذ منها حلاً للكثير من المواطن التي يتعذر علينا فلسفة الأحكام فيها. فالإنسان ـ مع شديد الأسف ـ لا يصاب بالغرور وهو جاهل، إنما يصاب به بعد أن يمسك ببعض أسباب المعرفة. وهكذا إذا كان فقيراً، إذ يكون التكبر بعيداً عن ساحته، ولكن عندما تُفتح له خزائن الأرض يكون عرضة لذلك المرض: ﴿كَلَّا إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى ~ أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى﴾([5])، وعلى هذه فقس ما سواها، أي أن الإنسان لا يسوق النعم في الاتجاه الصحيح، إنما تأتي عليه بالمردودات السلبية في كثير من الأحيان، لا على أنه أمر تكويني جبري، وإنما لأننا لم نتعاطَ النعمة كما ينبغي، فتأخذنا إلى مسافات بعيدة.
ويقول تعالى أيضاً في هذا الصدد: ﴿واتَّقُوْا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ﴾([6])، أي أن العلم عبارة عن نور سماوي، متى ما وجد نفساً صافية، وقلباً نقياً، فتح الله عليه ليجعله موضعاً للنور الإلهي المذكور، فحيث يريد الانطلاقة، يجد أن الأمور أمامه مهيأة، والأسباب متاحة، والأبواب مشرعة، ولا يحتاج لتوفير الأجندة وتحصيلها مزيد جهد، لأن السماء تكفلت بذلك، قال تعالى: ﴿الرَّحْمنُ ~ عَلَّمَ القُرْآنَ ~ خَلَقَ الإِنْسَانَ ~ عَلَّمَهُ البَيَانَ﴾([7])، فهذه نصوص قرآنية في منتهى الجلاء والوضوح والصراحة، على أن المعلم الأول هو الله سبحانه وتعالى، وهذا العليم المعلم كلنا شركاء في ساحة الاقتراب منه، صحيح أنّ فلاناً يوفَّق، والآخر لا يوفق، وعليه أن يحاسب نفسه، إلا أننا جميعاً شركاء.
فالإشكالية ليست في المعلم، إذ أخذ على نفسه أن يعلِّم الإنسان، لذلك أرسل أنبياء ورسلاً، ناهيك عن الفيض، وهو المدد الذي لا انقطاع له.
إن المعلم الأول هو الله سبحانه وتعالى، ووضوح هذه القضية في العلوم الدينية أكثر منه في الأمور الدنيوية، وهذا لا يعني أن المدد واللطف والفيض الإلهي لا يتدخل في مسيرة أصحاب العلوم الدينية، بل إن القرآن الكريم نفسه يقول: ﴿وَلا تَنْسَ نَصِيْبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾([8])، أي عليك أن تُعدَّ سلاحاً ماضياً تصل من خلاله إلى الهدف. وبناء على ذلك فإن المدد الإلهي موجود، إلا أن العلوم الدينية تحتاج إلى مسح إشراقي، وربما ينبغي على الإنسان أن يفرِّغ نفسه أكثر، لأنه نأى بنفسه عن الكثير من المساحات المتاحة والمشرعة له كغيره من الناس، في سبيل الوصول إلى حالة من الشفافية، ليصبح محطةً ومحلاً لاستقطاب الفيض السماوي.
منزلة العالم:
وقد يقول قائل: إن هناك من هم ليسوا من سلك أهل العلم وتحصيل العلوم الدينية، وهم على درجة من الورع والتقوى بشكل كبير، وربما أكثر من غيرهم. وهذا كلام سليم، إلا أن التأسيس والقاعدة يجرنا إلى هذا الجانب أيضاً، والعنوان المنطبق عليه، كأصدق مصداق يتداعى إلى الذهن هو أنه من رجال العلم الديني، سواء أخذناه على مستوى الفقه والأصول، أم جعلناه محصوراً في علوم القرآن وعلم الكلام والعقيدة، أم ذهبنا به إلى مساحات أبعد.
وبالعلم تحصل حالة من التمايز بين الناس، فإذا أنعم الله على أحد بالعلم، فإنه سوف يكون مبرزاً بين الآخرين، وعلماً شاخصاً، فإن حصلت هذه الظاهرة في مدينة معينة، كان لها خصوصيات، فالنجف الأشرف مثلاً لها خصوصياتها، وكذلك قم المقدسة، وقد اكتسبت هذه الخصوصية لا من وجود المعصوم أو من ينتسب لأهل البيت (ع) فحسب، فالمعصوم موجود في أكثر من مكان، فهذه المدينة المنورة فيها أشرف الخلق، وهو النبي الأعظم (ص)، وقد سادت العالم في علمها في يوم من الأيام، إنما اكتسبت تلك البقاع خصوصياتها من أمور أخرى. فتواجد العلماء في مكان ما له أثره الظاهر البيِّن.
يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالاَ الْحَمْدُ للهِ الَّذي فَضَّلَنا عَلى كَثيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنين﴾([9]).
فقد فُضِّل سليمان وداود بميزة العلم على كثير من المؤمنين، من أصحاب التقوى والإيمان والسير والسلوك والوصول. فالقرآن الكريم لم يبخس المؤمنين مقام الإيمان الذي وصلوا إليه، لكنه منح امتيازاً لهذين النبيين العظيمين على أساس العلم.
كما نص القرآن الكريم على التمايز بسبب العلم، بقوله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِيْنَ يَعْلَمُوْنَ وَالَّذِيْنَ لا يَعْلَمُوْنَ﴾([10]).
فما دامت هذه حقائق قرآنية، فلماذا لا نقف أمامها وقفة احترام وتقدير؟ فمن لا يحترم كباره يضيع، ومن لا يقدر الكبّار، فإنه يكفر النعمة، لأن من مظاهر شكر النعمة المحافظة عليها، أما أن نعمل على تهديمها وتشتيتها وتضييعها، فإن النتيجة ستكون سلبية، لا على الرمز نفسه، إنما على الجميع، ورحم الله امرءاً عرف قدر نفسه، لأنه إن عرف قدرها احترمها، أما إذا جهل قدر النفس التي بين جنبيه فإنه لا يرى أحداً بعدها. لذا تذهب به المذاهب إلى مواطن واضحة الآثار في الدنيا، وآثارها في الآخرة لها حسابها الخاص.
مشكلتنا اليوم أن حساباتنا لا تتجاوز حدود الدنيا، فهناك من لا يحسب حساباً لفلان؛ لأنه لا يخيفه مثلاً، إلا أن رب السماوات والأرض من وراء ذلك. يقول الإمام أمير المؤمنين (ع) لأخيه عقيل: «يا عقيل، أتئنُّ من حديدة أحماها إنسانها للعبه، وتجرني إلى نار سَجَرها جبارُها لغضبه؟ أتئنُّ من الأذى ولا أئنُّ من لظى»([11]).
قد يرى البعض أن ما يحدث بين اثنين، وإن تعدى حدود الشرع، إلا أن الإمام علياً (ع) سوف يتدخل في النهاية ويشفع، وهذا استخفاف بمقام الإمام أمير المؤمنين (ع) من حيث لا نشعر، لأنه طيب، ويستحيل أن يتقبل من أحد إلا الطيب، فاسم علي (ع) ليس للمتاجرة، فبقدر ما هو العروة الوثقى التي تعصمنا، بقدر ما هو الصراط المستقيم الذي هو أحدُّ من السيف وأدقُّ من الشعرة.
إن مفاتيح الجنان، ومغاليق النيران بيده، إلا أن المسألة لا تحسب بهذا الشكل، إنما هنالك حساب عسير.
وبالعلم ترفع درجات الناس، يقول تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا إِذا قيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذا قيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبير﴾([12]). فهنالك علم وإيمان، وقد تجد مؤمناً إلا أنه من حيث العلم لا يملك شيئاً ذا بال، وهو يدرك ذلك أيضاً، فهو إنسانٌ محترم، ولكن قد تجد مؤمناً آخر، ويدرك أنه لا شيء في العلم والمعرفة، إلا أنه يمدُّ عينيه، ويقارع الآخرين، ويقلل من قيمتهم، ويحارب وجودهم، فهذا له حسابٌ آخر.
وما من قائد قاد مسيرة بين البشر إلا والعلم سلاحه، لا كما يصور المستشرقون، ويكرر أصحاب الثقافة المنتقصة، من أن الرسول الأعظم (ع) لم ينشر دينه ويبسط بساطه للبشرية، إلا بالسيف. فأين القرآن والسنة إذن؟ فلم ترد روايات من الأهمية بقدر ما وردت في شأن العلم، بل أُلِّفت كتب في ذلك، من خلال روايات النبي الأعظم (ص) وأهل البيت (ع) في هذا الجانب. وإنما تقدم الإسلام وانتشر بالعلم والمعرفة.
قال تعالى: ﴿وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَليمٌ﴾([13]). فطالوت لم يكن معروفاً قبل الاصطفاء السماوي، إنما كان من سائر الناس، ومن طبيعة الناس أن تنكر من لم يكن معروفاً من قبل، ثم أصبح عنواناً بارزاً، إذ يتفاعل الحسد في نفوس البعض، ويمد عينيه بعيداً، إذ يرى أنه أحق، بل إنه يمدها إلى أبعد من ذلك بكثير، ولا يدري أن الله بالمرصاد. لذلك كان جواب قومه: ﴿أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ﴾، وهكذا كان الحال مع النبي الأعظم (ص) إذا تساءل بعض المشركين: أليس في الدنيا إلا يتيم بني هاشم ليكون نبياً، كالرجلين من القريتين: ﴿وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظيم﴾([14]).
فكان رفضهم لطالوت أنه فقير، لم يؤتَ سعة من المال، إلا أن الله تعالى يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء ويذلُّ من يشاء. فليس للإنسان أن يصل الهدف ما لم تتدخل السماء، إيجاباً أو سلباً. وليس هذا من الجبر، إنما المعروف أن النتيجة تتبع أخسّ المقدمات.
إلا أن الله سبحانه أجابهم: ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ﴾. صحيح أنكم أغنياء، إلا أنكم جهلة لا علم لكم، ولا معرفة، ولا إحاطة. فصار طالوت ملكاً بالعلم، وهذه منزلة في الدنيا والآخرة.
إن تحصيل المال والقوة الاقتصادية يمكن أن تُنال به الآخرة بالإضافة إلى الدنيا، بجعل المال وسيلة وليس غاية، فالمؤمن المتمكن المقتدر مالياً هو الذي يعمر ويبني المساجد والحسينيات ويساعد ويقدم ما يُقدِّم.
وبما أننا بلغنا هذا المقام، فإننا نذكر حديثاً عن النبي الأعظم (ص) أنه قال: «أهدوا لموتاكم. فقلنا: يا رسول الله، وما هدية الأموات؟ قال: الصدقة والدعاء»([15]).
فالنبي (ص) يريد أن يحافظ على العُلقة بين الحي والميت، لمصالح كثيرة.
نسأل الله سبحانه وتعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.