نص خطبة: السؤال يفتح الأبواب المغلقة وينير العقول

نص خطبة: السؤال يفتح الأبواب المغلقة وينير العقول

عدد الزوار: 538

2014-06-03

عن الإمام الصادق (ع) قال: «إذا ذُكر النبي (ص) فأكثروا الصلاة عليه، فإنه من صلى على النبي (ص) صلاة واحدة صلى الله عليه ألف صلاة، في ألف‏ صف‏ من‏ الملائكة، ولم يبق شي‏ء مما خلقه الله إلا صلى على العبد، لصلاة الله عليه، وصلاة ملائكته. فمن لم يرغب في هذا فهو جاهل مغرور قد برئ الله منه و رسوله و أهل بيته»([2]).

وقفة مع رهين السجون:

في الحديث عن الإمام السادس، جعفر بن محمد الصادق (ع) في حق ولده الإمام موسى بن جعفر (ع) قال: «وقد عُلِّم الحُكمَ والفَهم والسخاء والمعرفة بما يحتاج إليه الناس، وما اختلفوا فيه‏ من‏ أمر دينهم‏ ودنياهم، وفيه حسن الخلق، وحسن الجواب، وهو باب من أبواب الله عز وجل»([3]).

الإمام الكاظم (ع) شخصية استثنائية فيما يتعلق بالسؤال، وهو أكمل إنسانٍ في عصره، حُرمت الأمة من فيوضاته أربعة عشر عاماً، ينقل فيها من سجنٍ إلى سجنٍ. وهذا في حد ذاته يولّد سؤالاً: أين كان شيعة الإمام آنذاك؟ فلا التاريخ يساعدنا على العثور على إجابة مرضية، ولا النصوص المقدسة تساعد على هذا المعنى، ولكن مما يقلل من الخطب، حال ذلك الوقت المعين من العسر والحرج، بحيث كان يطلب من أصحابه أن لا يسلموا عليه إذا ما وجدوه في طريق، لكي لا يؤخذوا به. فربما يكون في هذا الواقع شيء من التبرير لما كان قد حصل، وإلا فكيف يمكن أن نتصور إماماً بهذه العظمة، يمضي أربعة عشر عاماً من المحنة، حيث يُشخص من قبل الوالي في المدينة، ويضيَّق عليه في سيره إلى البصرة، ومن ثم ينقل من سجن إلى سجن، من البصرة حتى بغداد، عاصمة الدولة العباسية، التي لاقى فيها العنت والحرج.

بين السؤال المعرفي والجدلي:

إن السؤال حق مشروع، فمن حق أيٍّ كان في هذا الوجود أن يسأل فيما يتعلق بالذرة حتى المجرة، بل وما وراء الطبيعة. فالسؤال يعني استدعاء المعرفة، أو ما يؤدي إليها، وهو مفتاحٌ لكنوز مغلقة من المعارف، ولو غاب السؤال عن وسط الأمة والمجتمعات، فعليك أن تنعى حالها، لأن الأمة التي لا تستطيع أن تسأل، هي التي أغلقت على نفسها أبواب المعرفة في شتى الفنون والمشارب.

فالملاك الأولي في السؤال أنه من أجل المعرفة، فمن يسأل عن شيء إنما يطلب الوقوف على حيثياته، ولو بصورة إجمالية، إن لم يتعمق في الحيثيات، فأنا عندما أسأل عن فلان من الناس، فإنني أطلب الحيثيات التي يتقوّم بها، وقد أرضى بالقليل إذا كانت القضية التي يراد أن تناط به في حدود معينة، أما إذا كانت قضية كبيرة فإن السؤال يأخذ بعداً من التركيز أكبر.

وبناء على ذلك يكون السؤال للاستفهام تارة، وأخرى للبيان والتعريف، وثالثة أنه يخرج من هذا الحد الشريف للسؤال إلى حد آخر على العكس منه تماماً، وهو أن يساق من أجل الجدل والمراء، وهذا اللون من السؤال هو الذي أتلف الكثير من المحاصيل العلمية.

فالجدل يفترض فيه أن يتطابق مطابقة تامة مع موضوعه، لكن عندما نلقي بنظرة عابرة نجد أن اللاتوافق هو سيد الموقف، لذلك فإن الجدلية لا تنتهي. فالجدل بين أصحاب الأديان قائم، مذ وجدت الأديان وحتى يومنا هذا، وسوف يبقى للمستقبل، وكذا الجدل بين أصحاب المذاهب الدينية والسياسية والفكرية وغيرها.

وبما أن السؤال هو مفتاح العلوم والمعارف الإلهية والإنسانية، ذات الطابع المعنوي الصرف، أو المادي الصرف، فإن له أهمية كبيرة.

والقرآن الكريم المنزَّل على قلب الحبيب المصطفى محمد (ص)، يأخذ بأيدينا إلى عدة محطات نتوقف من خلالها لنستجلي الدافع وراء هذه الأسئلة.

وباعتبار أن الناس يتفاوتون فيما بينهم في الثقافة والعلم وغيرهما، فقد تنقل القرآن الكريم معهم وفق تلك المقدرات.

طبيعة السؤال في فجر الرسالة:

والأسئلة التي انطلقت على ألسنة المسلمين الأوائل في مكة كانت ذات منحى عقدي واضح ومركّز من الوزن الثقيل. أما الأسئلة في المدينة فكانت فرعية تعنى بالجانب العبادي والمعاملي في الأعم الأغلب.

ولعل سائلاً يسأل: لِمَ لم تكن القضية بالعكس، باعتبار أن المدينة رشدت فيها عقول أصحاب النبي (ص) على العكس من مكة؟

لقد كان حال المسلمين في مكة أن المعتقد الذي يسوسهم عاش صراعاً فكرياً عقدياً مع المعتقد الذي يسوس حال الطرف الآخر، فهو صراع مبدئي، يتعلق بمبدأ الكون ونهايته، لذا كانت الأسئلة مباشرة ومعمقة.

ومن هذا الحال يمكن أن ننتزع أن المجتمع المكي آنذاك لم يكن مجتمعاً ساذجاً، كما يحاول البعض أن يسوق هذه القضية. نعم، كان هنالك عتاة مردة، كأبي لهب، وأبي جهل، وأبي سفيان، وفلان وفلان، لكن أصل القضية وجوهرها أن تلك المنطقة بأهلها
ـ إذا ما استثنينا عبدة الأوثان، وليس هم كل من في مكة ـ كانت تتكئ، إلى حدٍّ ما، على موروث ديني وصلهم من الديانات المحيطة بهم، فلم يكونوا على قطيعة مع يثرب، فهي المصدر التمويني لمكة، وكانت تدين باليهودية في طابعها العام. ولا مع نجران التي كانت نصرانية، ولم تكن على هوى أصحاب الأوثان.

أضف إلى ذلك ما حصل مع اليمن، لأن اليمن بعد ما حصل لملكتهم بلقيس، تحول المجتمع اليمني إلى أكثر من ديانة وديانة.

أما المدينة فعلى العكس من ذلك، لأن الدولة الإسلامية اتسعت بفضل وجود النبي (ص) وكان الحراك فيها يدور بين العبادات والمعاملات وما أشبهها، فكان نظم الأمر هو الذي يشغل بالهم.

وإذا نظر المرء نظرة شبه متكاملة لمعطيات القرآن الكريم، وجد أن الثراء في الجانب العقدي تحملت مسؤوليته السور المكية، على العكس مما هو عليه في السور المدنية، التي يمكن أن نتحصل منها على ثراء من نوع آخر.

وحيث إن هؤلاء يبحثون عن المعلومة في وجود المعصوم (ع) فإن الإجابة حاضرة، مسلَّمة، ليس فيها مساحة للتشكيك والتأمل والتردد. لكن المعصوم إذا غاب عن وسط الأمة، فعلى الأمة أن تقترب ممن هو الأقرب إلى مساحة المعصوم، وهم العلماء الأتقياء، الذين نذروا أنفسهم لله سبحانه وتعالى، وإلا فإن مجرد العلم بما هو علم، ربما يكون ذا أثر سلبي أكثر مما يفترض أن يكون فيه من الأثر الإيجابي.

الأثر السلبي لانحراف العالم:   

وبقراءة سريعة أيضاً نضع أيدينا على مشاهد لمواقع من المجتمعات التي انحرفت لانحراف العالم في وسطها، وليس هذا في الحاضر اليوم فقط، إنما هو منذ القدم، حتى في زمن الأئمة (ع)، حيث كان الانحراف في وسط العلماء مما لا يمكن أن يُغطّى، لشدة وضوحه، ولخطورة ما ترتب عليه من الأثر، ومن ذلك ما حصل في زمن الإمام الكاظم (ع) وهي أشد مرحلة عصفت بأتباع أهل البيت (ع).

أما عوامل ذلك الانحراف فكثيرة، أهمها ما استخدمته الدولة العباسية من أجندة من داخل أتباع مدرسة أهل البيت (ع) ومن خارجها في إرباك المشهد، بحيث يختلط الأمر على الموالي، ما لم يكن قابضاً على دينه بشدة.

فقد طرحوا مسألة إسماعيل ابن الإمام الصادق (ع) وتبنتها الدولة العباسية وروجت لها، حال أن إسماعيل توفي قبل والده الإمام الصادق (ع) ولم يدَّعِ الإمامة لنفسه، ولكن بعضاً من أصحاب الإمام الصادق (ع) تبنَّوا مشروع الإمامة لإسماعيل، رغم أن الإمام الصادق (ع) كان يبين ويوضح في أكثر من مكان ومكان، إلا أنهم لم يعيروه أذناً صاغية.

ثم مات إسماعيل، ودفنه الإمام الصادق (ع) وأشهد على دفنه، إلا أنهم مع ذلك رفضوا أيضاً. وهذا ما نرى له مثيلاً في مجتمعاتنا اليوم، على قاعدة: عنزة وإن طارت!.

ومن هنا كانت الإسماعيلية، وأصبحت لهم دول ووجود على مدى التاريخ.

وهنالك مدرسة أخرى استُحدثت على حساب مدرسة أهل البيت (ع) ومن داخل البيت الشيعي، وتبناها العباسيون أيضاً، وهم جماعة عبد الله الأفطح، ابن الإمام الصادق (ع) وهو رجل في منتهى التقوى والورع والإيمان، ولم يدَّعِ لنفسه شيئاً، بل كانت فيه عاهة تمنع أن يكون إماماً، لأن الإمام يفترض أن يكون سليماً في بنائه الجسدي والروحي. لكنهم أقاموا له الدنيا ولم يقعدوها، وتشكل تيار باسمه. فصار الصراع مثلث الأبعاد، يتشكل من أتباع المدرسة الحق، أتباع الإمام الصادق (ع) وأتباع مدرسة إسماعيل، وأتباع عبد الله الأفطح.

الإمام الكاظم ضحية السلطة:  

وللتدليل على أن الدولة العباسية كانت تعبث بالأمور، أن الخليفة في بغداد، أبرق إلى واليه في المدينة: انظر من أوصى جعفر بن محمد له فأشخصه إليّ. وفي نص آخر: فاقتله. كما في قضية موسى الكليم، فإن إرادة القتل كانت تطارده.

فلما اطلع الوالي على ذلك كتب إلى الخليفة أن الإمام الكاظم (ع) أوصى إلى خمسة، منهم أنا وأنت، فهل أشخصهم جميعاً إليك؟

فما حصل مع الإمام الكاظم (ع) أن الدولة العباسية تنبهت إلى أن أتباع مدرسة والده بدأت تتوجه إليه، فصاروا يضيقون عليه أشد التضييق، وبممارسات تعسفية. فأراد (ع) أن يعبر بسفينة أهل البيت (ع) إلى ساحل النجاة بقدر ما يؤتى من القوة، فصار يرشد إلى علماء المدرسة الذين أخذوا العلوم من منابعها، وصاروا يحملون رصيداً عالياً من التقوى والورع. لذا فإن شطراً من أصحابه كانوا ممن حظوا بمرتبة من أجمعت الطائفة على تصحيح ما نقلوه عن الإمام (ع).

السؤال في القرآن الكريم:

يقول تعالى: ﴿فَاسْأَلُوْا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُوْنَ([4])، وهذه دعوة للسؤال، ومبدأ قرآني، فكم منا من يسأل أهل الذكر؟ وإذا سألنا هل نسأل فيما يعنينا أو فيما لا يعنينا كثيراً؟

إن السؤال عندما يلقى يفترض أن تكون وراءه أيضاً مجموعة من العوامل الدافعة، فالملاحظ في الكثير من الأحايين أن الأسئلة إسقاطية، أو تعجيزية، أو لا فائدة من ورائها، أو مكررة، ودائمة التردد على الألسنة.

فهناك من يسمع السؤال من زيد من الناس في جلسة أو محفل، فيعلق في ذهنه، ثم يسأل به شخصاً آخر، أو أشخاصاً آخرين، ليعرف الفرق في الإجابة، ثم يُشكل على هذا أو ذاك، وهكذا. أما السؤال فيما ينفع ويثري ففي ما شذَّ وندر. بدليل أن بعض بيوتات المرجعية باتت اليوم أمام كمٍّ هائل من الأسئلة في دائرة الحيرة، فإن هي أحجمت عن الإجابة قيل: إن المرجعية لا تجيب، وإن أجابت فإنها تجيب عما يضحك الثكالى. 

أما أهل الذكر المعنيون في الآية، فإن المقصود بهم أولاً محمد وآل محمد (ع) وهذا مما لا خلاف عليه. أما الفئة الثانية فهم علماء الأمة الراشدون، الذين أمسكوا بعناصر الاستنباط، وردوا الأحكام إلى أدلتها الشرعية الأربعة: الكتاب والسنة والإجماع والعقل، فيجب علينا أن نسأل هؤلاء.

وقد يتطور معنا السؤال فيدخل في دائرة التشكيك، فعندئذٍ يأخذ القرآن الكريم بأيدينا إلى مساحة أخرى، فيقول: ﴿يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ القِيَامَةِ([5])، فالسؤال عن موعد يوم القيامة له مناشئ عديدة، منها التشكيك، ومنها الاستعجال، ومنها البحث عن الحقيقة. فإيمان المسلمين في الأعصر المتقدمة بيوم القيامة كان إيماناً مطلقاً، ولكن بمرور الأيام، وحصول الحراك اتخذ السؤال مناحي أخرى، منها التشكيك، أو البحث عن الحقيقة، أو غير ذلك.

ففي هذه الأيام نشاهد أن أصحاب الصدور الضيقة والعقليات المغلقة يصدرون الأحكام جزافاً بمجرد سماعهم لمثل هذه الأسئلة، مما يؤدي إلى نفور السائل من ثوابته، فنكون نحن السبب في ابتعاد الناس عن مبادئهم، لأن لدينا قمعاً فكرياً بعيد المدى.

إن عالم القبر عالم غيب، ونحن نؤمن به تسليماً، لكن من حقنا أن نسأل عن حيثيات ذلك العالم، وما يحصل في القبر والبرزخ. ولا بد أيضاً من تقريب المعنى للأذهان فيما يحصل في ذلك العالم.

فعلى أساس هذا السؤال صار القرآن الكريم يستدرج ويعطي الإجابة المقنعة بأسلوب هادئ يتماشى مع العقليات. ولنا في القرآن الكريم أسوة حسنة، وهو خير مدرسة نتنقل بين أروقتها، ونأخذ من عطائها، ونشرب من نميرها، ونستضيء بضيائها، ونتعامل بلطفها مع من يريد أن يتعامل معنا.

فكان السؤال التشكيكي منذ الأيام الأولى يرافق حركة المسيرة الرسالية، وهو أمر طبيعي مشروع، وعلينا أن لا نتقزز كثيراً، ولا أن نصدر أحكاماً جزافية، وأن لا نخرج المؤمنين من دائرة الإيمان، والمسلمين من دائرة الإسلام، على أساس أن طارئاً طرأ في التفكير، أو توقفاً أو تأملاً حصل في الأذهان.

والملاحظ أن القرآن الكريم يقدم لنا الأسئلة في الكثير من المواطن في الآيات الشريفة، على أساس أنها من النبي (ص) كواسطة، وإرادة من الله تعالى في الإجابة، وألوان هذا كثيرة:

1 ـ منها قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُوْنَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيْتُ للنَّاسِ وَالحَجِّ([6]). فهذا سؤال، إلا أنه تارة يتعلق بحقيقة الأهلّة، وما هي الأهلة؟ وماذا يترتب عليها؟ وتارة له منحىً آخر، كأن يكون عن منازل الهلال، والمراحل التي يتنقل فيها طوال الأيام.

إن ذهنية السائلين آنذاك كانت تختلف عما هي عليه اليوم، فالكثير منهم كان يتصور أن النبي (ص) عاجز عن الإجابة، فلم يسألوه إلا على نحو الواسطة، وكانوا يريدون الإجابة من السماء لا من الرسول (ص).

أما نحن، فلا زلنا بعد أربعة عشر قرناً نسأل عن الأهلّة، ونختلف فيها اختلافاً عجيباً! ولا ندري إذا كنا نحتاج إلى أربعة عشر قرناً أخرى، وربما لا تنتهي هذه القضية.

2 ـ ومن أمثلة تلك الأسئلة قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُوْنَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرَامِ قِتَالٍ فِيْهِ قُلْ قِتَالٌ فِيْهِ كَبِيْرٌ([7]). فالعرب كانت تعرف معنى الأشهر الحرم، وهي التي حرمت على نفسها القتال فيه، لكنهم بعد أن دخلوا الإسلام راحوا يسألون عنها، وعن منع القتال فيها. 

3 ـ ومنها أيضاً: ﴿يَسْأَلُوْنَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ قُلْ فِيْهِمَا إِثْمٌ كَبِيْرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا([8]). وهذا أمر واضح، ولكن ما هو حال الأمة بعد أربعة عشر قرناً من الزمن مع هذين الأمرين؟.

4 ـ وهكذا يستمر السؤال حتى يصل إلى الروح، قال تعالى: ﴿يَسْأَلُوْنَكَ عَنِ الرُّوْحِ قُلِ الرُّوْحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّيْ وَمَا أُوْتِيْتُمْ مِنَ العِلْمِ إِلا قَلِيْلاً([9]). فسؤالهم عن الروح يدل على أنهم لم يسألوا من فراغ، أما أن الرغبة الجدية موجودة أو غير موجودة ـ كما يقول الأصوليون ـ فهذا أمر آخر، المهم أن السؤال طرح، والنبي (ص) لم يستعجل الجواب حتى أتاه من الله تعالى، بأن الروح من أمره عز وجل، ولا زالت الروح إلى اليوم من أمره تعالى. وهو ما يقوله العالم بأسره. فهي أمر غيبي لا يمكن ضبطه بالأدوات والمقاييس المادية. فها هي الدراسات تتأرجح بين جسم شفاف، أو قوة محيطة بالجسد، أو غدة في القلب، فلم يدرك أحد حتى هذه اللحظة طبيعة الروح.

ومن الملاحظ أن هذا الجواب لم يكن جواباً إسكاتياً، إنما هو جواب علمي، ولكن لا يسع المقام إيضاحه، فأرباب العلوم المتعالية أعطوا للإجابة وبيان النص القرآني من خلال نصوص مدرسة أهل البيت (ع) وروافدها الكثير من الإجابات، التي لا تكشف كنه السر، إنما تبين ما يقرّب من تلك المساحة. 

رعاية الأيتام:

5 ـ وهنالك سؤال مهم استعرضه القرآن الكريم، على أنه من الأسئلة التي قُدمت للنبي (ص) وطلب منه الإجابة، وهو سؤال مدني، باعتبار أن المدينة حصلت فيها حروب، استأصلت بعض البيوتات، فلم يبق منها إلا الأطفال الرضع والأيامى من النساء، فاستلزم الأمر سؤال النبي (ص) عن هذه الظاهرة.

يقول تعالى: ﴿ويَسْأَلُوْنَكَ عَنِ اليَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ([10]). فاليتامى اليوم في مجتمعاتنا كُثر، ولكم أن ترجعوا إلى الجمعيات أو الوزارات المختصة لتأخذوا الإحصائيات، وسوف تجدون القوائم الخاصة في ذلك. بل لك أن تنظر في منطقتك لترى أرقاماً مذهلة مخيفة للأيتام، نتيجة حوادث السيارات أو غيرها. ناهيك عن البلدان التي تعتبر منكوبة عسكرياً. فلو أن الحرب وضعت أوزارها هناك، لرأيت طوابير من الأيامى واليتامى، وهذا ما يرهق كواهل الدول.  

ونحن أتباع مدرسة أهل البيت (ع) ما هي وظيفتنا تجاه هذا الملف؟

إننا أتباع مدرسة تولي على القاصرين من تولي، ممن يرتضيه الموصي، أو وكيل الحاكم الشرعي، أو غير هؤلاء من أهل الصلاح والإيمان، لكن المؤسف أن رقة القلب تنتهي مع انتهاء الفاتحة، ثم تأخذ الأمور منحىً خطيراً. وما هي إلا أيام وليالٍ، حتى يصبح الأيتام أعداءً لذلك الوصي، ثم يحصل الإنكار لما نصت عليه الوصية بأجمعه.

والأرقام اليوم ليست أرقاماً بسيطة، وقد صارت تنكر الملايين من قبل الوصي على وصية الميت، وصاروا يشاطرون اليتيم، ويعتبرون أنفسهم شركاء معه!.

تصوروا أننا اليوم، وفي هذه المجتمعات، ومع هذا التنوُّر والفهم، إلا أننا نرى البعض عند تقسيم التركة يدخل الوصي في عداد الورثة، فتكون له حصة كما للورثة! بدعوى أن المجتمعات تطورت! فهل أنها تطورت على حساب الدين؟

نماذج الأسئلة القرآنية:

6 ـ ومن الأسئلة التي استعرضها القرآن الكريم، سؤالهم عن الأنفال، قال تعالى: ﴿يَسْأَلُوْنَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ للهِ وَالرَّسُوْلِ([11]). وهذا السؤال كان ولا زال يسري في أوساطنا، مع أن المسلمين جميعاً يقرأون القرآن الكريم آناء الليل وأطراف النهار، فكم هي نسبة من يقوم بعهدة التكليف مع منطوق هذه الآية، التي صدح بها القرآن الكريم لأربعة عشر قرناً من الزمن؟. فالناجون من مسؤولية الأنفال يوم القيامة قلة قليلة. 

7 ـ ومن تلك الأسئلة قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُوْنَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ([12]). إلا أن المحتمل أنهم لم يسألوا عن الطيبات، إنما أرادوا تحليل غير الطيبات، كما هو الحال اليوم في الكثير من الأسئلة التي يراد فيها من رجل الدين أن يحل المحرَّم، كي ينتفع من ورائه السائل. كما في بعض المشروبات المحرمة أو بعض المحرمات الأخرى.

السؤال مفتاح العلم:

وبنظرة خاطفة لما تقدم يتبين أن هنالك أهمية كبرى للسؤال، حيث إن السؤال فيه جنبة هامة لرفع ثقافة الأمة، فالأمة التي يكثر فيها السؤال سوف تحصل على رصيد عالٍ من المعرفة، لا سيما إذا كان السؤال يحمل قيمة علمية، لأن جوابه سيكون مدعاة لإعطاء القيمة العلمية.

كما أن السؤال يحدث التنوع الثقافي بين الناس، ويترتب عليه البناء الفكري، لذا تجد الكثير من الناس يتصفون بالسوداوية في الحياة، لأنهم يرفضون الانفتاح على غيرهم، ويرفضون السؤال، فيبقون على ما هم عليه.

فمما أتذكره من الجد السيد ياسين رحمه الله تعالى، أنه سمع أحداً يصلي إلى جنبه، وكانت قراءته لسورة التوحيد غير صحيحة، فقال له: هذه القراءة ليست صحيحة، فرد عليه قائلاً: ربما يكون كلامك صحيحاً، إلا أن (الملا) علمني هذه القراءة، ولا يمكن أن أغيرها، وهذه مسؤولية (الملا)!.

كما أن المقابل للسائل يفترض أن يتلقى سؤاله بصدر رحب، قال تعالى: ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظَّاً غَلِيْظَ القَلْبِ لانْفَضُّوْا مِنْ حَوْلِكَ([13]). فلا بد من سعة الصدر مع السائل، سواء كان ولدك أم أحد أفراد المجتمع.

كما أن كثرة السؤال توجب على الإنسان البحث والمتابعة والتدقيق والتحقيق، فنحن بسؤالنا يمكن أن نلجئ المجيب أن يكون في أعلى درجات التحري والدقة في الإجابة، وهذه مسؤولية المجتمع، وعليه أن يفعِّلها، ولكن ليس معنى ذلك أن نسأل مثلاً الشيخ الفلاني فيجيب، ثم نخرج منه لنسأل الشيخ الآخر، ثم نسأل السيد الفلاني، وهكذا. وكأن السؤال شبيه بالاستخارة، فالاستخارة حالة استثنائية، بل ليس من حق الإنسان أن يلغي حركة التفكير عنده لصالح الاستخارة.

ثم إن المستخار، لو قدمت له هدية، أو مساعدة في مشروع ما، لما كلف نفسه أن يستخير لنفسه في أن يأخذها أو يردَّها، لأن المنفعة حاصلة ولا داعي للاستخارة.

فالبعض قد يستخير على طلاق بعض زوجاته، أيّاً منهن يطلق، وأياً منهن يمسك، أو أن تدعوه على طعام، وتقدم له ما يستلزم الضيافة، ثم يستخير، فيقول: النتيجة هي النهي! فأين العقل؟ وأين الأخلاق؟ وأين الاحترام لمن احترمك؟ حيث استنفر نفسه وأهل بيته، وجميع من حوله، وكلف نفسه الكثير من أجلك، ودعا من دعا لتكريمك من خلالهم!.

فهل هناك آية في الاستخارة؟ وهل أن دليلها من خلال الروايات تامّ؟ وإن كان تاماً، فهل هو بهذه الكيفية المستهجنة؟

وهكذا في خطبة النساء، وغيرها من الأمور، إذ يلجأ الكثير إلى الاستخارة، بدل أن يسأل في مثل هذه القضية المصيرية. فالسؤال في