نص خطبة الجمعة بعنوان :مدرسة التنوير وواقع الأمة
مفهوم التنوير بين الإسلام والغرب:
قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثيراً مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُم أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُم آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَل هُم أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ﴾([2]).
يعتبر التنوير من المفاهيم التي أخذت مساحتها في العالم الغربي، وتلقفته أفراد ومجاميع في المجتمع الشرقي، وبين الأول والثاني مفارقة ينبغي أن نقف على بعض جوانبها.
ففي الحديث عن مولى المتقين وأمير المؤمنين، علي بن أبي طالب (ع) كما في نهج البلاغة: «فإنَّما البصير من سمع فتفكّر، ونظر فأبصر، وانتفع بالعبر، ثم سلك جَدداً واضحاً يتجنب فيه الصَّرْعة في المهاوي»([3]).
هل صحيح أن التنوير مفهوم غربي؟ أو أنه بضاعتنا ردت إلينا؟
ربما يتحسس بعضنا من هيئة المفردة، ولكن سرعان ما يتخلى عن تلك الحالة من التحسس، وقد يُزاوج أحياناً بين مادة الكلمة وهيئتها، وتستفحل تلك الحالة من الحساسية عنده، حتى أنه إذا أراد أن يتخلص من وطأتها احتاج إلى الكثير من بذل الجهد لإسقاط تلك الأغلال التي كبلته ردحاً طويلاً من الزمن. لذلك يبقى السؤال قائماً: هل أن التنوير مفهوم غربي بامتياز نشأةً وتكويناً وتولداً وتفرعاً؟ أو أنه مفهوم إسلامي بامتياز، أصّل له القرآن الكريم، وسافرت به بعيداً السنة المطهرة كما عن الحبيب المصطفى محمد (ص) ؟.
ربما يقول البعض: إنه مفهوم غربي بامتياز، لأن أول من أسس له وأخذ بأبعاده هم أعلام الغرب، بعد النهوض من كبوة القرون الوسطى. ويسوقون على ذلك جمعاً من الأدلة أرى في استعراضها ضياعاً للوقت بلا طائل، لأنها لا تصمد أمام نقد ونقض.
وربما تعصب آخرون إلى كون التنوير مفهوماً إسلامياً بامتياز. وهنا لا بد من تأسيس هذا المدعى على أساس من قواعد صلبة، وأصول ثابتة.
وإذا أردنا أن نؤسس لأمر ونقعّد له القواعد، فلا بد أن نجنح صوب الدليل، ولا بد بالضرورة أن تكون للدليل القدرة على إثبات المدعى.
التنوير والبصيرة:
في الحقيقة إن مفهوم التنوير مفهوم إسلامي بامتياز، غاية ما في الأمر أن المسلمين ابتعدوا عن هذا المفهوم كثيراً حتى صار في أدراج النسيان، بحيث ولّد هذه الحالة من التحسس، حتى إن شبابنا ورواد النهضة عندنا في القرنين الأخيرين، إذا رفعوا لواء التنوير، طالتهم النعوت من هنا أو هناك، بأنهم خرجوا أو مرقوا من الدين.
فالمفهوم أوضح لدينا من الشمس في رابعة النهار، إذا ما أرجعنا المفردة إلى منشئها، صحيح أن الإسلام لم يستخدم هذه المفردة مادة وهيئة (التنوير) إلا أنه استخدم مفردة أخرى أكثر منها استقراراً وثباتاً واستهلاكاً ومرونةً، تلك هي مفردة (البصيرة)، فالبصيرة والتبصّر والاستبصار، من المفردات التي دعا إليها القرآن الكريم في الكثير من المواطن، فقد ورد التعبير القرآني بنحو: ﴿أَفَلَا يُبْصِرُوْنَ﴾([4])، وأمثالها، لتؤصل وتقعِّد لهذا المفهوم.
فالإسلام يتعامل مع التنوير على أنه بصيرة، وأن المتنوّر بصير، ولا مشاحة في المفردات والاصطلاحات، فما دامت بالنتيجة تدلل وتوصل إلى هدف، فهي المرادة والمبتغاة، لأن اللغوي عندما يضع المفردة بإزاء معنى، فإنما يريد التدليل على ذلك المعنى، بحيث يحصل حضور ذهني.
فلو أن مؤسس اللغة الأول، أراد أن يستحضر البحر بالكامل، فلن يمكنه إحضار البحر بنفسه إلى ذهن المتلقي، وعندئذٍ لا بد من مشير ناقل لتلك الحيثية إلى عالم الذهن، فيأتي بلفظة (بحر) ليحدث حالة من القرن الأكيد بينها وبين المضمون، وهو البحر، ومع الاستمرار والقرينة، أو مع إسقاطها أيضاً وكثرة الاستعمال فيما وضعت له، يترتب على ذلك حضورٌ لتلك الكينونة في عالم الذهن، فإن قيل: (بحر) وإن لم تكن في سياق كلامٍ ما، فإن المعنى المتبادر الأول سوف يحضر في الذهن.
والكلام عين الكلام في (البصيرة) لكن التقلبات التي طرأت على واقع الأمة أسقطتها في الكثير من محطات الانتظار، وأحياناً محطات (التشليح) وهي ما تكون نتيجة للانتهاء من الاستفادة من آلة كنا نستفيد منها، كالسيارة مثلاً. فما تعرضت له الأمة في جانب (التشليح المعنوي) أكثر خطورة منه في الجانب المادي، غاية ما في الأمر أنه ليست لدينا مجاميع (تشليح) لأفكار من انحرف بهم المسار، نعم، هنالك محطات كثيرة للتشليح المادي، كما في نفايات السيارات وغيرها، في حين أن النفايات المعنوية ليست أقل كماً ولا كيفاً من نظيرتها المادية.
فالقرآن الكريم يؤسس لمعنى البصيرة، وكانت هذه المفردة حاضرة لدى الكثير من أصحاب النبي (ص) الذين اقتربوا من مناجم التبصير، وهي عبارة عن مجموعة من الآيات المحكمة التي نزل بها الأمين جبريل على النبي محمد (ص) وهي تحمل لفظ البصيرة.
والروايات في السنة المطهرة من الكثرة بمكان، وفي نهج البلاغة سيل عارم من هذا المعنى. يقول الإمام علي (ع): «نظرُ البصر لا يُجدي إذا عميت البصيرة»([5]). فقد تجد من يشهد على الهلال مثلاً وإن كان متناهياً في الضعف، لحدة بصره وقوته، إلا أنه عندما يقترب من مفهوم ما، أو قضية معينة، تغيب عنه البصيرة؛ لأنها لم تؤسس على أساس محكم، فيقع في الإشكالية، ويحصل الالتباس، والشواهد في ذلك أكثر من أن تعد أو تحصى.
فالقرآن الكريم يرشد إلى أن التنوير في مفهومه الأول هو البصيرة، وبمقدور أيٍّ منا أنا أن يراجع الآيات التي تشتمل على مفردة (بصيرة) أو (بصير). وكذلك في السنة المطهرة.
فالمتنور هو البصير، ولا ينبغي لأحد أن يتحسس عندما يُنعت البعض من رجال الدين بأنهم متنورون، أو يقال عن نخبة من شبابنا الطيب المثقف إنه متنور، لأن خلاف التنوير هو العمى والظلال والعياذ بالله. وينبغي أن يكون كل من ينتمي إلى الإسلام متنوراً، ومن أراد أن يضاف إلى خارج حدود هذا المفهوم، فعليه أن يضع علامة استفهام.
ومن المؤسف حقاً أن تنقلب المفاهيم، بحيث يصبح المسلم المتنور يخاف من معطيات هذه المفردة، وفي الوقت عينه تثنى الوسادة لمن يحاربها، ويوصف بالقداسة، في حين أن القداسة على نحوين:
1 ـ القداسة المبنية على أسس محكمة، كما هو الحال لمن عاش النبي (ص) واقعاً، أو سار على نهجه من التابعين، أو من اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
2 ـ القداسة المبنية على حالة من التصوف الذي انحرف به أربابه إلى طرق عوجاء، فللتصوف أصل ومحتد إسلامي، إلا أن هناك من شذ به المسار في هذا الاتجاه أو ذاك. بل وصل بعضهم بالتصوف إلى طرق مسدودة، لذلك ضاعوا وضيعوا، وضلوا وأضلوا.
مساحة التنوير وحدوده:
ثم إن التنوير والتبصُّر، هل يقتصر على رجال الدين فقط، فيما يكون آحاد الأمة خارج دائرة البصر والبصيرة؟
ومن جهة أخرى، هل أن البصير لا بد أن يتربى ويتحرك في واقع ثقافي حداثي بعيداً عن دائرة الدين والالتزام كمسار ثانٍ، أو يمكن أن يكون رجل الدين الملتزم متنوراً بصيراً أيضاً؟
عندما نسبر الواقع في الخارج نجد أن للمتنورين حضورهم في واقع الأمة، ولم يكونوا من رجال الدين، في حين أنهم أخذوا بمفاهيم الإسلام إلى مرحلة بنوا على أساسها قابلية تطويع الكثير من الأحكام لصالح واقع الحال الذي نعيشه. وقد تأثر بذلك حتى بعض المستنبطين للأحكام الشرعية، وأخذوا بأسبابها، وسوف أدلل على ذلك في محله إن شاء الله تعالى.
إن جماعة رجال الدين كغيرهم من الناس، يتأثرون ويؤثرون، والثقافة محيط عام، يتأثر به من اقترب منه، وقد لا يتأثر به من يكون في منأى عنه، وربما وقع تحت طائلة تأثيره.
والرجل الآحادي في الأمة، الذي يعبر عنه (بالعامي) يمكن أن يكون من المتنورين أيضاً، بل قد يكون أحياناً في درجة أكثر رفعة مما هي عليه في غيره، وإن اتصف ذلك الغير بصفة رجل الدين في مساحة الثقافة والتنوير.
وبالنتيجة يمكن أن يكون من رجال الدين من هو فقيه مرجع متنور، وقد يكون من هو خارج إطار الحوزة متنوراً قادراً على التغيير، وقد يكون بينهما من له القدرة على إحداث التغيير أيضاً.
أركان حركة التغيير:
لسائل أن يسأل: ما هي الأركان التي بنيت عليها حركة التنوير في وسط الأمة؟ وبعبارة أخرى: هل ثمة مبررات للحراك في سبيل إحداث حركة تنوير في وسط الأمة، أو أنه لا مستوجب لذلك، فتبقى المياه راكدة، ولا نتعاطى النصوص التي لا تحرك واقعاً؟
للجواب عن تلك الأسئلة نذكر مجموعة من الأركان التي بنيت عليها حركة التغيير، وكما يلي:
1 ـ إلغاء العصبية الدينية في قبال الحقيقة المطلقة: فإذا ما تم هذا الأساس فلا شك أن له أثره في حركة الأمة الفكرية وتقدمها. فالعصبية للدين مطلوبة، لكنها العصبية التي تبنى على أساس الدين، لا تلك التي تبنى على أساس الهوى والرغبة والتوجه، فهذه لا يمكن أن ننسبها للدين، وإن حملت الدين شعاراً لها، كما هو الحال اليوم، حيث يساق الكثير من الناس كقطعان الغنم تحت شعارات لا يفقهون ما تدلل عليه، وربما أدعي أكثر من ذلك، أن حملة تلك الشعارات هم أنفسهم لا يفقهون شيئاً منها في الكثير من الأحيان.
2 ـ البحث في جدلية إيجاد أو بناء السلطة على أساس معطيات العقل: فالسلطة ليست سلطة الحاكم، رئيساً كان أم أميراً أم غيره، فقد تكون السلطة أحياناً أكثر خطراً من السلطة الدنيوية، وهي سلطة الدين التي لا توضع في موضعها، ولا تُجيَّر في صالح ما أرادت السماء أن تكون لها أو تقوم بها. ومثال ذلك أن العالم الغربي عندما أراد أن يطرح مفهوم التنوير التفت إلى ما حوله، فوجد أن السلطة الدينية المتمثلة بأرباب الكنيسة أشد خطراً عليهم في استئصال الإنسان واستباحة كرامته من السلطة القائمة في إجراء القوانين الوضعية، وما محاكم التفتيش التي ذهب ضحيتها الكثير من الأبرياء من أتباع الكنائس إلا دليل واضح على ما كان عليه الإنسان الغربي من الامتهان بواسطة الدين.
التنوير في الغرب:
لقد تحرك المفكرون الغربيون بناء على أنهم يبحثون عن جدلية مهمة، وهي التوأمة بين الأول والثاني، ليخلصوا إلى نتيجة مفادها أن هناك نخبة نذرت نفسها بعد أن وصلت إلى مقام التسليم بالحقيقة المطلقة خارج حدود العصبية من جهة، واصطفاء ما يمكن أن يصطفى ويقدم على رأس الأمة، لكنها سرعان ما تعثرت وذهبت أدراج الرياح، ودخلت في دائرة الترف الفكري.
وللتنوير في الغرب رحم واسع، اشتمل على مجموعة من الموارد التي أججت فيه حالة من الرغبة الجادة في الانقلاب على الواقع المرير. ومن تلك الموارد:
1 ـ الموروث التاريخي المتراكم، بغثه وسمينه، على فرض وجود السمين، حيث وصل الأمر إلى تشويه كل شيء، حتى سِيَر الأنبياء والرسل (ع) التي تم تشويهها والعبث بها.
وقد وجدت الطليعة المتنورة من الذين أرادوا لأنفسهم أن يقفوا في الصف الأول من حركة التنوير في وسط الأمة الإنسانية، أن ذلك الركام التاريخي يعيق حركتهم، فحاولوا أن يقتربوا منه شيئاً فشيئاً ليذللوا الكثير من صعابه الجمة، وقد دفعوا الكثير ثمناً لذلك.
2 ـ التحولات السياسية الصاخبة التي اجتاحت أطراف أوربا من حول المركز، الذي مثلته روما آنذاك، وكان لا بد للصراع السياسي المذكور أن يكلف الضرائب، وقد يكون الحاكم أول من يدفع الضريبة، وقد يجعل من الأمة قرابين لشدة سطوته وجبروته، فتذهب الأمة أدراج الرياح، وهو ما يحصل في مختلف الأمم.
فقد دخل أحدهم الكوفة، فرأى أنهم يشقون قناةً من نهر الفرات إلى المسجد الجامع فسأل: كيف يمكن للماء أن يصعد من المنحدر إلى الأعلى؟
وما هي إلا أيام قلائل حتى حضر مرة أخرى، فرأى أن تلك القناة يجري فيها الدم من الأبرياء! لا لشيء إلا لأنهم يدفعون ضريبة التنوير، ولأنهم أصحاب بصيرة، يعيشون الحقيقة المطلقة والمعتقد الحق، المتمثل بمحمد وآل محمد (ص).
3 ـ الصراع الاجتماعي: فقد كانت أوربا تتشكّل من القوميات والأعراق، وكانت تتصارع فيما بينها، لكنها اتّحدت أخيراً لتُطفئ كلمة الحق، وإلا فإنَّ الكفر لم يتحد يوماً، إلا أنه يتحد في مواجهة الحق، وهو ما نشهده اليوم من تحزُّب الأحزاب على الإسلام، فما من قضية تخص الإسلام إلا واتحدت كلمتهم عليها. وقد منحناهم نحن المساحة الكافية والفرصة المواتية ليُحرِّكوا دمىً هنا وهناك، وإلا لانشغلوا بأنفسهم.
ولا إشكال أن التنوير الثقافي له جاذبيته في وسط الشباب، إن لم يكن في جميع الأوساط الاجتماعية. لذا نرى أن المجتمع في الزمن السابق يتقبل ما يسمع من روايات على علاتها، بل قد يحارب من يضع علامة استفهام على واحدة من مفرداتها، أما اليوم، وبفضل ما وصل إليه شبابنا من حالة الثقافة والوعي والتنوير، باتوا لا يقبلون البضائع المطروحة من أي الأسواق، سواء كانت تحمل ماركة مسجلة أم لا. وهذا مغنم كبير، ونعمة كبرى علينا أن نشكر الله تعالى عليها، بأننا تحركنا من موضع، وتموضعنا في آخر.
الشهيد الصدر رمز التنوير الحديث:
وهذه الحالة من التنوير بحاجة إلى رمزية يلتف الناس حولها، فكما أن الله تعالى بعث في الأمم أنبياء ورسلاً، وأردفهم بالأوصياء والأولياء، فقد أتمّ مسيرتهم بالعلماء، وأعني بهم جميع العلماء، رجال الدين أو غيرهم، صحيح أن رجل الدين ربما يشغل الصف الأول، لكنه لا يعني أن من يحمل علماً في جوانب أخرى لا يكون عالماً، فهو عالم يجب أن تحفظ له منزلته العلمية، وعلينا أن نحترم جميع الذوات التي تحمل فكراً وثقافة وأدباً وشهادة عليا، وأن نمنحهم الفرصة، ونعطيهم حقهم من التقدير والاحترام، فعلى عواتق هؤلاء ينهض المجتمع في حركة التنوير، ويشق طريقه نحو الهدف، فنحن أبناء اليوم بكل توقُّده واقتداره وطموحه، ولسنا نعيش قبل قرن من الزمن، فعلينا أن لا نخمد لهب هذه الأبعاد الثلاثة.
ومن النماذج التنويرية الرائدة في أوساط الحوزة العلمية الإمام الشهيد السيد محمد باقر الصدر (رضوان الله عليه) الذي كان علامة وسمة بارزة، ومفردة تحفظ ولا يقاس عليها. فهو إمام التنوير في وسط الحوزة الخاص، وكذلك في أفراد الأمة من حوله.
ولو أردت أن تصنع مفارقةً، وتضع يدك على نقطة السبب فيها، فما عليك إلا أن تنحوَ في استقراءٍ ــ وإن كان ناقصاً ــ للكوكبة الذين التفوا حول ذلك الرمز، وتناثروا هنا وهناك، فسوف تجد أن الطليعة من رجال الدين الذين أسس لهم المجدد الشيخ المظفر (قدس سره الشريف) في حاضنة الحوزة العلمية في النجف الأشرف، هم الذين التفوا حول هذا المحور الرمز.
ففي جامعة بغداد ــ وهي أمُّ الجامعات في العراق آنذاك، وموطن الصراعات الفكرية بين التيارات بما فيها الأفكار الإلحادية ــ استطاع السيد الشهيد الصدر أن ينفذ، من خلال شذرات غرسها في ذلك الواقع، فأحدثوا تغييراً بالتفافهم حول إمامهم الشهيد الصدر.
كما كان (قدس سره) متنوراً في عبادته أيضاً، ولم يكن سلوكياً انطوائياً على ذاته. فقد يتصور البعض أن العبادة ما هي إلا التسبيح والتهليل والقيام والقعود والركوع والسجود وكثرة الحج والزيارة وتلاوة القرآن وما إلى ذلك. ومن باب المثال نرى اليوم أن هناك سباقاً كبيراً للذهاب لزيارة الإمام الحسين (ع) ولا إشكال أن في هذا العمل العبادي ثواباً وأجراً عظيمين. ولكن، لنسأل هذه السؤال: هل أن المبلغ من الدين هو أن نحزم الأمتعة لزيارة الأضرحة فحسب؟
إن الدين عبارة عن منظومة متكاملة، فإن كانت زيارة الإمام الحسين (ع) تدفع الزائر للخروج من غائلة التخلي عن الالتزام بالقيام بواجباته وضوابطه الشرعية، فهي زيارة فاعلة ومطلوبة، أما إذا كان يدرك أن ثمة حقاً شرعياً واجباً يتعلق بذمته، ثم يذهب لزيارة الإمام الحسين (ع) فهذا لا يتناسب مع المعطيات الحسينية. وكذا الحال في الحج، فهناك من يذهب للحج، فيعطي بعض الأجرة لصاحب الحملة، ويعده بالقسم الباقي لاحقاً، ثم لا يفي بشيء من ذلك، فيكون بينهما طلاق بائن. وعلى هذه فقس ما سواها.
إن أهل البيت (ع) يمثلون الطيب والطهر والصفاء والنقاء والكمال، ومن أراد الاقتراب من مساحتهم لا بد له أن يرتب الأوراق وفقاً لذلك.
نعم، كان الشهيد الصدر (قدس سره) متنوراً أيضاً في ساحة الفقه، ولم يكن فقيهاً جامداً كما كان الكثير من فقهائنا في الماضي والحاضر، وهذا هو الواقع. فقد كتب الشهيد الصدر رسالة عملية تحت عنوان الفتاوى الواضحة، وهي من الروعة والدقة بمكان، بحيث لبّت الكثير من احتياجات المجتمع لا سيما الشباب.
أما في التنوير العقدي فإننا اليوم نباع ونشترى في سوق النخاسين، لكن الإمام الشهيد الصدر عندما اقترب من علاج إشكال عقدي فإنه اقترب بمسمى الفقيه البصير المتنور، حيث عالج قضية فدك بتلك العقلية، ولكن لما عجز الكثير ممن حاول أن يقترب من تلك المفردة قال عن الكتاب: إنه كتاب جيد، إلا أنه يُشمّ منه رائحة (تسنُّن) السيد محمد باقر الصدر! وما نراه اليوم على بعض مواقع الانترنت أو برامج التواصل من استهداف لبعض الشخصيات والأفكار إنما هو امتداد لذلك، ومنشأ ذلك كله التحجر والتخلف والعمى والجهل.
ثم التنوير الفكري، فقد خلف الشهيد الصدر وراءه تراثاً إنسانياً ضخماً، فهناك (فلسفتنا) الذي عالج من خلاله الفكر الغربي الذي أراد أن يسوق المجتمعات الشرقية إلى الهاوية، وكذلك (اقتصادنا) الذي سلَّ من خلاله شوكة (هيغل) ومن سار على نهجه من الاشتراكيين وأتباعهم من الشيوعيين الملاحدة. ولما أراد أن يقرأ الفكر الإنساني على أسس منطقية أسس له الأسس المنطقية للاستقراء، الذي أذهل من خلاله أرباب الفكر الغربي.
وبهذا الحجم من الفكر الإنساني نجده في الفكر التقليدي الحوزوي في مربع متقدم، ولو أن الغطاء رُفع عن أعين بعضهم لقرأوا عالَماً آخر، ولكنها قلوب عليها أقفالها مع شديد الأسف.
الشيخ الفضلي رائدُ التنوير:
لقد ربى الشهيد الصدر الأجيال، وتربى على يديه النخبة، وما سماحة العلامة الدكتور الفضلي إلا واحدة من شذرات السيد الشهيد الصدر. وسوف يأتي السيد الشهيد يوم القيامة يفاخر بالأفعال والنتائج، وأحد تلك المفردات الثقيلة في الميزان هو الشيخ عبد الهادي الفضلي، الذي عشنا فاجعة رحيله (رحمه الله تعالى). فالشيخ الفضلي من رموز التنوير والتقدم الفكري الحديث، وسوف ألقي الضوء على ذلك إن شاء الله تعالى، بعد العودة إلى البحث في شؤون الحوزة العلمية، لأن الحوزة إذا ما عاشت التنوير والبصيرة تقدمت نحو الآفاق البعيدة، وإلا فإنها ستبقى تراوح مكانها.
لقد سمعتم الكثير من وسائل الإعلام عن حياة الشيخ الفضلي (رحمه الله تعالى) وليس لدي المزيد، وللأحسائيين الحق أن يفاخروا بمثله، ولكن مع شديد الأسف، هنالك نفوس مريضة في هذا المجتمع الذي لا ينبغي أن يكون فيه مريض بعد أن تروّض على المساجد والحسينيات. فقد حذرتُ قبل تسع سنوات في مسجد الإمام علي (ع) في المطيرفي، وقلت: احذروا التيار (السلفي الشيعي) أكثر من التيار السلفي السني، ولم أجد من يسمع. ثم حصلت قضية السيد محمد علي، ولم نجد من يسمع، وهكذا مع قضية السيد علي، وهلم جرّا. واليوم نُكئت الجراح من جديد، فهناك بيان صادر من إحدى الجهات (المأثومة) يعلق على مراسم الجنازة فيقول: صلى الفاسق على الفاسق! وهي كلمة لا أنطقها بسهولة، إنما هي جرح وسهم في الصدر، لكنه الواقع الذي يراد لنا أن نلبسه قسراً، وهيهات لهم ذلك، فالزمن الذي يقاد فيه المرء كما يقاد الجمل المخشوش قد ولى إلى غير رجعة، وحان الوقت الذي نقول فيه لهؤلاء: كفى، فقد قالوها بحق السيد محمد علي في كتابهم حجارة من سجيل، وقالوها في غيره، إلا أن الواقع خلاف ذلك.
أيها الشباب الطيب: والله لا عذر لأحد أن تنطلي عليه مثل هذه الأمور، فهؤلاء لم يُبقوا على شيء، وسوف يصلون إلى المرجعية في يوم ما.
وسوف أتناول في يوم ما موضوع هذه البذرة، وجذور نشأتها، حيث نشأت أولاً في إصفهان في إيران، وما هؤلاء إلا رجع صدى لأولئك.
وفي الختام أذكّر بمناسبة شهادة الزهراء (ع) التي تمر بنا بعد يومين إن شاء الله تعالى، لكننا سوف نبدأ ابتداء من هذه الليلة مع سماحة الخطيب الشيخ الغمغام. ونسأل الله تعالى أن ينفع المؤمنين بذلك، وأحث الشباب أن لا تفتقدهم الزهراء ( ع) في مجالسها؛ لأنها سوف تبحث عنكم في مكان أنتم أحوج فيه إليها. فالزهراء (ع) وديعة السماء في الأرض، وقد ظُلمت وجرى عليها ما جرى، ومن حقها أن تأخذ بعضاً من وقتنا على الأقل، في حضور مجالسها. وأسأله تعالى أن يشفّعها فينا وفيكم، وأن يعجل بظهور الخلف الباقي ليأخذ بثأرها ممن ظلمها.
وفقنا الله وإياكم لكل خير، والحمد لله رب العالمين.