نص خطبة: التشكيل الأبداعي في شخص الرسول (ص)
﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّيْنَ رَسُوْلاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيْهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوْا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِيْنٍ﴾([2]).
في مكة المكرمة، وعلى مقربة من البيت الحرام، شعّت أنوار الحبيب المصطفى محمد (ص) وليداً، وفي المدينة المنورة بقدس أنواره غادر النبي الأعظم هذا الوجود، وبين المدينتين مسيرة كبرى فيها من الأحداث ما لا يستطيع الفرد أن يقف على أدنى مراتبه، ناهيك عن العليا منها، وكل المراتب عالية إذا ما أضيفت إلى النبي الحبيب المصطفى محمد (ص).
لقد امتدح القرآن الكريم النبي الأعظم (ص) في مواطن عدة، أثبت من خلالها أعلى درجات الكمال، لكن مسألة الخلق العظيم، والرفعة في التعامل مع آحاد الأمة، كانت الصفة الأبرز، والأكثر تركيزاً من خلال السماء، لأن البشرية تتعاطاها آناء ليلها وأطراف نهارها في قوله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيْمٍ﴾([3]).
فالعفو والحلم والتسامح والتواضع، مزيج من مفردات الخلق العظيم، ولم يرفع النبي هذه المفردات التي ترقى إلى مساحة المفاهيم في حدود دائرة القول، كما قد يحصل للكثير من الوعاظ، فالنبي الأكرم (ص) جسدها عملاً، وأوجد لها ملامسةً مباشرة مع الواقع من حوله، وهو ما يلمسه من النبي الكبار والصغار، والرجال والنساء، والعبيد والأحرار، فكلهم على درجة سواء، وإنما التمايز الذي يقع في دائرة الحصر أساسه التقوى.
كما يقدم القرآن الكريم النبي (ص) في مساحة السهولة في التعاطي مع أفراد الأمة، لأن خصائص المجتمع الحجازي في دائرة واسعة، وهي المساحة التي شغلت أحداث الرسالة في مبدئها، كانت عبارة عن مجموعة من الأمزجة والأهواء والطرق والنحل، تتفاوت فيما بينها شدة وضعفاً، والنبي (ص) بقدر ما يقترب من مساحة هؤلاء، يحاول أن لا ينأى بنفسه عن مساحة الآخرين، لذا أوجد أمةً وسطاً كما ستأتي الإشارة إليه في ذيل الحديث إن شاء الله.
إن هذا المجتمع لم يقدم له النبي (ص) زاداً مادياً صرفاً، فهو لم يرفع من رتبة الفقير كي يصبح غنياً، ولم يضع شيئاً في جيب الغني ليزداد ثراءً، وإنما أودع في الأمة المفاهيم المعنوية في سموها وارتفاعها. قال تعالى: ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظَّاً غَلِيْظَ القَلْبِ لَانْفَضُّوْا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾([4]).
وبقدر ما كان النبي (ص) يتواضع ويتبسط لهم، ويقترب منهم، كان بعضهم يقابله بالعكس من ذلك تماماً. ولو لم يكن من الأحداث ـ قبل أن تأخذ الرسالة مسارها ـ إلا هذين الشاهدين لكفى:
الشاهد الأول: ما صدر من أحد قرابته، وهو أبو لهب، ذلك الرجل الذي سجل أول رقم في إدماء جسد النبي (ص) بالحجارة، فقد صكّه بحجر في جبهته، وقال له: تباً لك ولما جمعتنا من أجله، ثم نزل الأمين جبريل ليهون الأمر على النبي الأكرم محمد (ص).
الشاهد الثاني: ما كان في المدينة المنورة، وقد أخذت الرسالة أبعادها، فقد دخل عليه أحدهم، وجمع ثياب النبي (ص) في صدره([5])، وهو يقول له: اعدل يا محمد، فالتفت إليه أحدهم قائلاً: إن لم يعدل محمد فمن يعدل إذن؟ وهمّ أن يقطع لسانه، فالتفت النبي (ص) لعلي (ع) وقال له: يا علي، اقطع لسان الرجل([6])! فأخذه علي (ع) إلى فم الوادي، وقال له: خذ بُلغتَك، ولم يقل له: خذ حاجتك، لأن الحاجة هي ما يُتقوم به، أما البُلغة فهي ما يعود به إلى أهله عزيزاً، وهذا هو قطع اللسان بالقراءة الإيجابية التي يقرؤها علي، وهو الوصي بالحق للنبي الأكرم محمد (ص) .
ويقول الحق تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُوْلٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيْزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِيْنَ رَؤُوْفٌ رَحِيْمٌ﴾([7]). فالذين عاشوا النبي (ص) في فترته الأولى وآمنوا به، كان إيمانهم على مراتب، يتفاوت فيها من عاش النبي (ص) وبقدر ما كان بعضهم يكيل له الأذى، كان يقابلهم بما يقربهم من نفسه، وكان قلبه يتسع لجميع الأفراد.
فالحري بمن يتولى موقعاً، أو يتسنم مقاماً، أن يتمثل النبي (ص) ويقتدي به، فهو القدوة الحسنة، وأن يكون رحب الصدر، قادراً على استيعاب جميع المجتمع بكل تفريعاته وتناقضاته.
ولو وقفنا في هذا الحديث عند باب النبي (ص) لطال بنا الكلام، وما وسعنا المقام، وخير من يعرفنا بالنبي (ص) بعد القرآن الكريم هو علي (ع) حيث يقول: «كان النبي (ص) إذا سئل شيئاً، فإراد أن يفعل قال: نعم، وإذا أراد أن لا يفعل سكت. وكان لا يقول لشيء: لا»([8]). أي أنه لا يرد الطرف المقابل بكلمة ربما يترتب عليها الكثير، وكانت الاستجابة بنعم مقدمة على غيرها.
وفي الحديث عن أبي سعيد الخدري أن النبي (ص) كان أشد حياءً من العذراء في خدرها، وكان إذا كره شيئاً عرفناه في وجهه ([9]). أي أن ملامحه تتغير، لتبرز حالة عدم الرضا، فلا تكون ردة الفعل لديه عنيفة. وهنا يشترك جميع أبناء الأمة في اقتباس الدرس من هذه المفردة، فلا ينبغي للإنسان المؤمن أن يكون عبوساً قمطريراً في بيته، فيما يكون مفتوح الأسارير خارجه، والعكس بالعكس، إنما يفترض أن تكون المعادلة واحدة والبساط الذي يجلس عليه واحداً، فهو في البيت مبتسم أمام امرأة نذرت نفسها لخدمته وبناء بيته وصيانته، كما أنه يجب عليه أن يقوم بنفس الدور خارج دائرة البيت، لأن المجتمع عبارة عن البيت الأكبر من ذلك البيت الصغير الذي عاش فيه، فكلنا في هذا النسيج الاجتماعي نشكل أسرة واحدة، ويكفينا الحديث الشريف شرفاً، وأن يكون وساماً نعلقه على صدورنا، وهو قول النبي (ص) لعلي (ع): أنا وأنت أبوا هذه الأمة ([10]). فما عسى أن يكون مجتمع الأب فيه النبي الأكرم (ص) وعلي (ع).
وفي حديث شريف يرويه ابن كثير صاحب التفسير، أن رسول الله (ص) قال: أنا عبد ([11])، آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد ([12]). ولم يقل: كما يأكل الناس، لأن العبد في بداية العهد الإسلامي، كانت تلحقه بعض الأحكام والخصائص، وإن كنا نقرأها حتى يومنا هذا في الرسائل العملية والكتب الفقهية على أنه بند عُطّل ظاهراً، ولكن قد تكون له مصاديق هنا أو هناك.
وفي المشهور أنه كان يسلم على الصبيان، ويبدؤهم بالسلام، وهذه الصفة ربما يصطاد البعض منها ليوجد حالة من التضعيف والتشكيك أو التقليل من المقام والمنزلة، وليس الأمر كذلك، ولو كان الأمر يستلزم ذلك، لما قام النبي (ص) بمثله.
أيها الأحبة: إن الرجال شقوا طريقهم في الحياة، وبنوا حياتهم على أساس من قواعد أصّلوها ثم عمّدوا عليها، لكن النشء من أبناء الأمة هو الذي يحتاج أن نقترب من مساحته. ونَأْيُ رجله الدين بنفسه عن مساحة الناشئة من الأبناء فيه الكثير من الضرائب التي تدفع، فكم هو جميل أن نعيشهم كما عاشهم النبي (ص). ولولا أن النبي (ص) لم يتعاط المشهد على أساس من هذا، لما قدم أبناءُ الناشئة أنفسهم قرابين على مذبح التاريخ، لتتروى الرسالة الخالدة من طهر دمائهم، كما حصل في بدر، وما تبعها من معارك وغزوات، وخير شاهد على ذلك القاسم بن الحسن (ع) وأمثاله.
والنبي (ص) لم يغادر هذه المساحة أبداً، إنما كان يختمها بدعاء كان يردده بقوله: اللهم أحيني مسكيناً، وتوفني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين ([13]). وكان يقول: أشقى الأشقياء من اجتمع عليه فقر الدنيا وعذاب الآخرة ([14]).
ومن خلال هذه المجموعة من المفاهيم المجسدة عملياً، استطاع النبي (ص) أن يغادر برسالته آفاق الدنيا، لتستقر عند العرش الأعظم.
وها نحن اليوم نعيش ذكرى وفاته (ص) وهي على الأبواب، فنتذكر أنه أعطى ولم يدّخر جهداً، وما على الأمة إلا أن تمتثل دوره.
لقد عرجت روحه المقدسة في حالة من الصدمة لجميع أبناء المجتمع الذي عاشه بحيث أنكر بعضهم وفاته ([15])، وفي هذا بحث يطول، ولا موجب للدخول فيه، ولكن الذين حضروا مشهد وفاته هم علي وفاطمة وبعض زوجات النبي (ص). فكانت الزهراء (ع) على مقربة منه، وعلي آخذ برأسه في حجره، وهذا هو الصحيح من التاريخ، لا أن فلاناً وفلاناً حضروا هناك، بل قد يفترض أنهم لم يكونوا في المدينة أصلاً، أو أنهم كانوا فيها وفي بيت النبي (ص) وهذا يستدعي الكثير من التساؤلات، ومنها: لماذا تخلّف هؤلاء عن جيش أسامة؟ وإن كانوا في المدينة، فما هو المستوجب لدخولهم حجرة النبي (ص) وفي بعض الروايات أن روحه الشريفة عرجت إلى ربها وهو في بيت علي وفاطمة، لا في بيت واحدة من زوجاته.
كان النبي (ص) في مرض وفاته يغمى عليه تارة، ويفيق تارة أخرى، فإذا أفاق نظر إلى وجه علي (ع) مرة، وإلى وجه فاطمة أخرى، فيبتسم في وجهها، ويقول لها: هوّني عليك يا بنية، فإنك الأسرع لحوقاً بي. وكانت الزهراء (ع) تجمع بين ابتسامة الاستجابة لإشراقة وجه النبي (ص) من جهة، وتستغرق في الدموع من جهة أخرى، بناء على أنها ترى أن الفاصلة الزمنية تقترب، ولم يبق من الوقت إلا القليل.
وبين هذا وذاك عرجت الروح الطاهرة إلى الرفيق الأعلى، ولا تَسَل بعدُ عما حصل، لأن ما حصل يندى له الجبين.
فالنبي (ص) بقدر ما أوذي في مسيرة عطائه الرسالي إلا أن الضربة الأخيرة التي تلقاها هي عبارة عن مفردة واحدة، هي التي طعنت النبي (ص) في قلبه فأدمته، وكانت أقسى عليه من حَجَر أبي لهب، ولا زالت الأمة إلى يومنا هذا، وإلى القادم من الأيام، تدفع ضريبة هذه الكلمة التي شكلت قفلاً لمعارف الرسالة ومنابعها الصافية التي لا نترواها إلا من خلال آل بيت محمد (ص).
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يحشرنا مع محمد وآل محمد، إذا ما اختار لنا عروجاً، وأن يكتبنا ممن يتردد على قبره الشريف زائرين وملتمسين قضاء الحوائج، وهذا من التوفيق الأكبر الذي حرم منه الكثير من أبناء الطوائف الأخرى.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يثبتنا على الحب والولاء والتصديق والتسليم والانقياد والطاعة المطلقة للخلف الباقي من آل محمد (عج).
وهنيئاً للزائرين الذين كتب لهم شرف الوصول عند النبي (ص) في ذكرى رحيله الأكبر، ونسأل الله تعالى أن يشركنا في صالح أعمالهم، وأن يدفع البلاء والأذى عنهم، وأن يردهم إلى أهلهم سالمين غانمين بجاه محمد وآله الطاهرين.
وفقنا الله وإياكم لكل خير.
والحمد لله رب العالمين.