نص خطبة: الإمام الحسن مؤسس السلم الأهلي

نص خطبة: الإمام الحسن مؤسس السلم الأهلي

عدد الزوار: 758

2013-07-31

مراحل ومحطات من حياة المجتبى:  

قال أنس بن مالك خادم النبي محمد (ص): «لم يكن أحدٌ منهم أشبه برسول الله (ص) من الحسن بن علي»([1]).

مرت بنا ذكرى جليلة عظيمة، هي ذكرى ميلاد السبط الأول، التي تحمل من الرمزية والإشارات الكثير. فهنالك مفردات أوصدت دونها الأبواب، وحريٌّ بمن يسير على نهجهم، ويلتزم ولاءهم أن يطرق تلك الأبواب، لعلها تُفتَّح أمامه، وإذا ما فُتحت فقد فُتح عليه فتح كبير، لأنها تنطوي على كنوز عظيمة، فهم لم يخلِّفوا وراءهم دنيا في مصطلحها العام، إنما خلّفوا معنىً متى ما فُعِّل أخذت الدنيا مسارها الطبيعي وفق ما أرادت السماء لها أن تكون. فكل خلل نعيشه إنما هو بسبب تنكب الطريق والابتعاد عن دائرتهم (ع).

1 ـ في عهد النبي (ص):

لقد مرت حياة الإمام الحسن (ع) بمراحل عديدة، أهمها:

المرحلة الأولى: من الولادة حتى إمامة أمير المؤمنين (ع)، وهذه المرحلة فيها الكثير من المحطات التي تستدعي التوقف عندها ولو قليلاً من الوقت، لأهميتها من جهة، ومساس الحاجة إليها من جهة أخرى، حيث إننا اليوم نعيش اليوم الكثير من الإشكاليات في أوساطنا، خصوصاً النُّخَب، حيث إن إشكالية العقل العربي ـ بل الإسلامي ـ اليوم في طور لا تحسد عليه، من العلل والآفات، منها:

1 ـ الإرباك أو التخلف، ومشتقاتهما من الروافد الكثيرة المكبلة لذهنية الإنسان في عالمنا العربي والإسلامي.

2 ـ عدم دَرْك الأمة لأبسط مناحي الحوار بين الطرف والطرف الآخر، حال أن القرآن زاخر بالآيات التي تدعو لذلك، وكذلك الروايات الكثيرة.

فماذا ننتظر من عربي أو مسلم، عُطّل الجانب الأول من كينونته، إلا وهو العقل؟ وعطل أهم الروافد بجانب العقل، وهو الحوار؟ وما عسى أن تكون النتائج إلا ما يترتب على ذلك من خبط عشواء، لا ينفع أحداً؟ اللهم إلا ما قد يكون مقصوداً من الحاطب نفسه.

فالمحطة الأولى التي تستوقفنا في حياة الإمام الحسن (ع) هي فترة وجوده مع النبي محمد (ص) فقد كان البرعم الصغير في حسابات الطبيعة، يدرج بين يدي النبي (ص) فيشبعه حباً وحناناً، ويودع فيه أسرار النبوة والإمامة.

كما أنه كان يتحرك في ظلال النبي (ص) على أنه الخليفة والإمام المفترض الطاعة بعد حين. ومن يحاول أن يقارب بين الإمامين السبطين (ع) خارج هذه الدائرة، فهو خارج المألوف في البناء الفكري الشيعي. فنحن نعتقد في أئمتنا ما نص عليه القرآن الكريم، فما كان فيهم كان في حركة الأنبياء من قبلهم، ولا من مستنكر. وفي قضية عيسى (ع) الكثير من الشواهد على ذلك.

فعندما نقول: إن الإمام الحسن (ع) في بيت النبوة، فذلك يعني أنه في دائرة اللطف الإلهي، لأن النبي (ص) هو السبب بين الأرض والسماء.

2 ـ في خلافة الثلاثة:  

المرحلة الثانية: مع الخلافة (الراشدة) بعد النبي (ص) وهي الفاصلة الزمنية بين وفاة النبي (ص) ورجوع الخلافة الحقة إلى أصلها ومحتدها، وهو الإمام علي بن أبي طالب (ع) وقد دامت هذه الفترة 25 عاماً، تقدم الأمة فيها ثلاثة من رجال العرب في مكة، من المهاجرين. وقد قام هؤلاء بدور تمثل في عدة محاور، لكنها بالنتيجة صبت في مصب واحد. وقد ترتب على هذه الحقبة الزمنية التي تبلغ ربع قرن الشيء الكثير.

وربما يسبب الولوج في هذا النفق إشكالية كبيرة، لكن الذي يهمنا هو وضع الإمام الحسن (ع) وخصوصيات هذه المرحلة. فقد أنفقنا الكثير من أوقاتنا ـ نحن أتباع هذه المدرسة ـ في مسألتين أو ثلاث:

1 ـ صلح الإمام الحسن: وقد أشبع هذا الجانب بما لا زيادة عليه، إلا في حدود فلسفته الغائبة إلى اليوم، مع شديد الأسف.

2 ـ تعدد الزوجات، وأنه كان مطلاقاً، وذلك في الرواية الواردة على لسان علي (ع): «لا تزوِّجوا الحسن فإنه رجل مطلاق»([2]). أو أنه استشير في تزويج الحسن أو الحسين أو عبد الله بن جعفر فقال للمستشير: «المستشار مؤتمن، أما الحسن فإنه مطلاق للنساء، ولكن زوجها الحسين، فإنه خير لابنتك»([3]).

لقد قلت منذ زمن بعيد: إن روايات أهل البيت (ع) كرائحة الشجر، فعندما تطرق الأسماع رواية عنهم (ع) وبطريق معتبر، تشم منها عبق الجنان، وطيب محمد وآل محمد (ص). فهي كالورد الطبيعي الذي يفوح شذاه فيملأ القلوب ويحرك الذهنيات. أما الروايات التي لم تصدر عن هذا الطريق، فيمكن أن يكون فيها جمال الورد، إلا أنها لا تعطي شذا ورائحة طيبة.

3 ـ أن الإمام الحسن (ع) كان يحب الراحة والدعة.

لكن المهم في حياة الحسن (ع) حكمته، والمعادلة التي دخل فيها في فترة من تقدم على مولى المتقين كانت تسوسها الحكمة، التي تجلّت مظاهرها عندما آلت الأمور إليه كخليفة على المسلمين عامة.

3 ـ في خلافة علي (ع):

المرحلة الثالثة: وجوده في خلافة المولى علي (ع) بعد أن آلت إليه الخلافة الظاهرية وهو في المدينة، ثم انتقل إلى الكوفة. أما لماذا ترك المدينة، وهي بلد الهجرة، وعاصمة الإسلام الكبرى، وكان فيها من تقدمه في الخلافة؟ ولم اختار الكوفة بعد المدينة، ولم تجرَّب الكوفة بعدُ؟ فإن علياً (ع) عندما يطلق كلاماً، أو يقوم بفعل، أو يتخذ موقفاً، فإنما هو التشريع بعينه، لأنه لا ينظر إلا بعين الله، وهو القائل: «لو كُشف الغطاءُ ما ازددتُ يقيناً»([4]). فاليقين متجسد عنده، وهو يعرف حقائق أهل الكوفة، وما تنطوي عليه ضمائرهم ونواياهم.

وقد يفتح هذا الكلام تساؤلاً: إذن لماذا ذهب إلى هناك وهو يدرك ما يحصل، ويعرف خفايا الأمور؟

إن هذا التساؤل يصح بحق من يعيش خارج دائرة العلم الحضوري، أما من يعيش في تلك الدائرة، فلا موضوعية لهذا التساؤل بحقه، لأنه يصطدم ومبدأ التسليم والانقياد والطاعة التامة للإمام المفترض الطاعة، وهذا واضح بيّن.

أقول: لقد حاول الكثير من رجالات الطابور الخامس أن يجعلوا من الإمام الحسن (ع) عقدة في طريق أبيه (ع) وقد تخطت حكمة الإمام الحسن (ع) هذه الإشكالية، وأتمنى على الباحثين الذين يصلهم صوتي أن يولوا هذا الجانب اهتماماً، لأنه يعطينا الكثير من الأمور المساعدة على تخطي المرحلة الحرجة التي نعيشها فكرياً.

4 ـ بعد شهادة علي (ع):

المرحلة الرابعة: حياته بعد شهادة مولى المتقين (ع) وفيها محطات:

1 ـ المحطة الأولى أنه أصبح الخليفة العام للمسلمين بإجماعهم، فلم يكن آنذاك اختلاف بين شيعي وسني في هذا الأمر، إذ أجمعت الأمة على خلافة علي (ع) الظاهرية بعد خلافة من تقدمه، ثم أجمعت بعد ذلك على خلافة الإمام الحسن (ع) فأصبح خليفة المسلمين جميعاً. وقد استمر الأمر ما يقرب من ستة أشهر.

وهنا يفتح باب التساؤل: لماذا أُطلق اصطلاح الخلفاء الراشدين على الأربعة دون الإمام الحسن (ع)؟ إذ يفترض أن يكون خليفة راشداً خامساً، وفق الحسابات والقياسات والمباني التاريخية، فلم لا يذكر اسمه مع من تقدمه من الخلفاء الأربعة حسب تقسيم مدرسة الخلفاء؟

إن فتح هذا الباب، أشبه بفتح باب جهنم على تاريخنا، وسوف يكون فيه هزّاً لصدقية من تقدم ومن لحق، فكتبَ أو حَلَّل. لذا أُغلق هذا الباب، وأُسدل عليه الستار. والكلام في هذا الصدد طويل.

فما هو الدور الذي اضطلع به الإمام الحسن (ع) في هذه الفترة؟

لقد قام بمجموعة من الأمور، أبرزها:

أ ـ ترميم الواقع الشيعي من الداخل، فلا إشكال أن بذرة التشيع كانت على يد النبي محمد (ص) والروايات عن النبي (ص) التي تؤصل لذلك كثيرة، لكن ظهورها على المشهد والحيز العملي بدأ يتبلور في عهد الإمام علي (ع) وفي شهادته اتضحت المعالم أكثر.

لقد أُدخل الجمع المحيط بأمير المؤمنين (ع) في ثلاثة من الامتحانات الصعبة الحرجة الخطيرة، التي لو أدخلت فيها أمة فليس معلوماً أن تخرج بأفضل مما خرجت به الكوفة:

الامتحان الأول: معركة الجمل، التي حضرها أكبر عدد من الصحابة وحملة القرآن وكتبة الوحي. وهذا امتحان عسير نشاهد مثيلاته اليوم بين أوساطنا. فمعركة الجمل اليوم حاضرة في العديد من الساحات، لكنها بثوب ولون آخر.

الامتحان الثاني: معركة صفين، وكان فيها ما تبقّى من الصحابة، وكمٌّ لا يستهان به من القراء وحملة الحديث. وهذه مشكلة أخرى حدثت لأمير المؤمنين، لأنه بعد وفاة الخليفة الثاني فُتح باب التحديث، فكان كعب الأحبار وأبو هريرة وفلان وفلان، وبات سوق الرواية أبخس الأسواق.

وفي صفين استشهد من استشهد من أصحابه الخلص، وفي الطرف الآخر طويت صفحة جماعة. ومن المعلوم أن ذهاب طبقةٍ ما، سواء كانت طبقة علمية، أم طبقة حكام أم سلاطين، أم غيرهم، فإن الخلف الذي يأتي بعدهم يتطلع لخلاف ما كان عليه من تقدم، فتتغير الكثير من المعادلات، ويحدث التقديم والتأخير، حتى ينتهي القرار إلى صيغة معينة.

ثم جاءت النهروان، التي تعتبر الضربة القاصمة لمعسكر الإمام علي (ع) في الكوفة، وإن كان (ع) قد استأصل شأفة الخوارج، لأنه لم ينجُ منهم إلا دون العشرة حسب الروايات عن أمير المؤمنين (ع). أي أنها طاحونة لم تُبق ولم تذر، إلا أن هؤلاء الذين خرجوا منها سالمين، لا زالوا إلى يومنا هذا يتوالدون وينتجون، ويملؤون الدنيا، فقد غاب الأشخاص، لكن الفكر لم يغب بعد. فكان فيهم من يقول: لو أمكنني الدهر من علي لوضعت الرمح في جبهته! يقول ذلك وهو يصلي خلفه. ويقول آخر: قاتله الله كافراً ما أفقهه([5]).

ولا يقولنَّ أحد إن هؤلاء عراقيون فقط، كلا، إن هؤلاء من هنا، حجازيون ويمنيون، ولك أن تراجع القبائل لتعرف.

من هنا فإن هذا الكم الهائل من القتلى ذهب بالكثير من المفكرين الواعين، والطلائع المتقدمة، والقيادات المهمة، وقد حاول الإمام الحسن (ع) ترتيب الأوضاع والأوراق من جديد. وقد جرت ثلاث محاولات لاغتياله، خلال ستة أو ثمانية أشهر من خلافته. وجميع تلك المحاولات كانت من الصف الأول القريب منه.

ب ـ انشغل (ع) بمراقبة الطرف الآخر المتوثّب، والمتمثل بمعاوية والأمويين، فكان (ع) بقدر ما هو مشغول بشيعة أبيه، يرمِّم أوراقهم، ويصحح أحوالهم، كانت عينه الأخرى مفتوحة على الطرف الآخر المتربص بهم شراً، يريد الانقلاب الكامل على الشرعية (في اصطلاح اليوم).

ج ـ ترتيب الأولويات على أساس تقديم الأهم على المهم: سواء في ترتيب الأوضاع في من تبقى من شيعته وشيعة أبيه، أم التوجه إلى الشام. وهنا تتجلى الحكمة الحسنية. فتقديم المهم على غير المهم أمر طبيعي، أما تقديم الأهم على المهم فيحتاج إلى جهد فكري.

لذا فإن الإمام الحسن (ع) اجتاز بالأمة من مرحلة إلى مرحلة، لتتهيَّأ لمرحلة قادمة، بانت ثمارها في كربلاء فيما بعد، أما ثمرتها الكبرى فسوف تخرج على يد الخلف الباقي من آل محمد (عج).

 

5 ـ ما بعد الهدنة:

المرحلة الخامسة: ما بعد الهدنة، فلم يكن هنالك صلح، إنما كانت هدنة بين الإمام الحسن (ع) ومعاوية، وهي تمتد إلى زمان شهادته، وفيها أيضاً الكثير من المحطات، وتتضمن الكثير من الأدوار، منها:

1 ـ العبور بالأمة الإسلامية قاطبةً إلى ساحل النجاة، بأقل التكاليف، بأن يرمم الوضع العام، دون أن يراق ملء محجمة من دم. فهل نجح في هذه الخطوة؟ الجواب: أنه نجح بامتياز، بدليل أن خصومه وخصوم أبيه من قبل كانوا في رضا تام عنه (ع).

2 ـ وضع القواعد العامة لمرتكزات السلم الأهلي: ويعتبر هذا المطلب اليوم من أهم المطالب للهيئات والمجتمعات المتحضرة في العالم.

السلم الأهلي مطلب إنساني:

ومن الضروري أن نرجع للإمام الحسن (ع) فيما أسس وأصّل للسلم الأهلي بين المسلمين، ليعرض المسلمون أنفسهم اليوم بواقعهم على ما كان يرنو إليه هذا الإمام العظيم.

فالإمام الحسن (ع) بتأسيسه هذا المبدأ في واقع الأمة جعلها تعيش حالة من الهدوء والسكون النسبي.

إلا أنه مع ذلك لم يسلم من التحرك المضاد، فقد ثارت عليه الثائرة، وتحرك في مقابله جماعة وصفوه أنه سلبي في مواقفه، من جهة، وأنه ضعيف الحجة، عيّي، أي أنه ليس فصيح اللسان كالإمام علي (ع). وكان هذا من صحابته المحسوبين عليه، كما أن صحابة النبي (ص) كانوا محسوبين عليه.

لقد بلغ الإمام علياً (ع) في حياته أن هناك من يغمز في الإمام الحسن (ع) وقد بدأ يتحرك في أكثر من مكان، فجاء به ذات يوم وأصعده المنبر، فخطب الإمام الحسن (ع) في الكوفيين وكان من كلامه:

«أيها الناس اعقلوا عن ربكم، إن الله عز وجل ﴿اصْطَفَى آدَمَ وَنُوْحَاً وَآلَ إِبْرَاهِيْمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى العَالَمِيْنَ، ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيْعٌ عَلِيْمٌ﴾([6])، فنحن الذرية من آدم، والأسرة من نوح، والصفوة من إبراهيم، والسلالة من إسماعيل، وآل محمد (ص) نحن فيكم كالسماء المرفوعة، والأرض المدحوة، والشمس الضاحية، وكالشجرة الزيتونة ﴿لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ﴾([7]) التي بورك زيتها، النبي أصلها، وعليٌّ فرعها، ونحن والله ثمرة تلك الشجرة، فمن تعلق بغصنٍ من أغصانها نجا، ومن تخلف عنها فإلى النار هوى».

فقام أمير المؤمنين من أقصى الناس يسحب رداءه من خلفه حتى علا المنبر مع الحسن (ع) فقبّل بين عينيه ثم قال: يا ابن رسول الله، أثبتَّ على القوم حُجتك، وأوجبت عليهم طاعتك، فويلٌ لمن خالفك([8]).

وانظر إلى عبارة أمير المؤمنين (ع) إذ يخاطبه بقوله: يا ابن رسول الله، فلم يقل: يا ولدي، تنبيهاً لمن يقول: إن هؤلاء ولد فاطمة وعلي، وليسوا ولد النبي (ص) وهو ما تبناه العباسيون أيضاً، وبقيت رواسبه إلى يومنا هذا.

وانظر كذلك إلى قوله: أثبتَّ على القوم حجتك، ففيه الكثير من الدروس لنا نحن الذين لا زلنا نعيش الواقع المرير إلى يومنا هذا، إذ لا نركن اليوم إلى دليل أو حجة أو برهان. والحال أننا يفترض أن نكون ناشدي حقيقة، نتطلع إلى رؤى واسعة، لا أن نكون أسرى إلى موروث مثقّل بالكثير من الرواسب والدخائل التي أقحمت بلا حجة ولا دليل ولا برهان. 

هذا هو كلام الخليفة الرابع من الخلفاء الراشدين حسب تصنيف مدرسة الخلافة، فلم لا يكون كلامه حجة كما في كلام غيره؟ ولم أصبح كلام من تقدمه حجة بمنزلة كلام الله، وعندما تصل الدورة إلى كلامه يهمل؟

العودة إلى الله:  

وهذا أيضاً لا يهمنا كثيراً اليوم. فنحن اليوم في هذه الدوامة التي تعصف بالمشهد في أكثر من اتجاه واتجاه، علينا أن نجعل الله سبحانه وتعالى نصب أعيننا، وبذلك تُحلُّ مشاكلنا كلها. ففي هذه الأيام شيء، وفي القادم منها أشياء. وكم كنت أكرر وأخشى أن نصل إلى مربع ما، ثم نصل إليه ونتخطاه، ونصل إلى غيره ونتخطاه، ثم لا نصل في النهاية المحمودة، إلا أن يلطف الله تعالى بعنايته الخاصة المتمثلة في الخلف الباقي من آل محمد (عج).

فاليوم أو غداً وما بعدهما، ستكون هنالك مطارحات فكرية، بل ربما تكون من أكثر من قناة وأكثر من شخص، وسيكون هنالك أخذ ورد، فعلينا أن لا نكون سريعين في أحكامنا، لأننا مسؤولون عن الحرف الواحد، فضلاً عن الكلمة أو الحكم، ولا بد أن نكون في منتهى الحذر، لا أن تستفزنا الكلمات.

ولا بد أن نترك مساحة للتفكير قبل إصدار الأحكام على أحد من الناس، سواء كان في الداخل أم الخارج، فالفضاء اليوم مفتوح، والناس في بحر من الأفكار، وليس من المعقول أن يُحجَر على أحد في الكلام. بل ليس من المنطقي ولا الواقعي أن تطلب من أحد أن لا يتكلم.

كان الإمام علي (ع) عندما يقاطعه البعض في مسجد الكوفة، يصغي إليه ثم يعود لخطبته، فلم تكن لديه مشكلة أن يستمع لطابور الخوارج وينفتح عليهم، ثم تدحض الحجة الحجة، والدليل الدليل.

إن تعبيرات: (ضالٌّ مضل، أو مرتدّ، أو كافر، أو أنه ليس شيعياً) ما عادت تجدي نفعاً، والأجدر بنا أن نُمسك بالكلام، ونترك المتكلم، أياً كان، فإن كان الكلام مهلهلاً محفوفاً بالخلل، فسوف يُكشف للناس بالدليل والبرهان، وإن كان محكماً فلا مانع من قبول الحقيقة.

نسأله تعالى أن يحفظ المسلمين عامة، وأن يلطف بهذه الطائفة خاصة، وأن يجعلنا يقظين حذرين منتبهين، لأن القادم من الفتن أشد ظلمة.

سوف نبدأ بعد شهر رمضان إن شاء الله تعالى، بالتأسيس لموضوع المرجعية، لأن هذه المفردة لا زالت إلى اليوم لم يسلط عليها الضوء في ذهنيتنا، بدليل ردة الفعل العنيفة التي حدثت مع أحد الفضلاء السادة. وسوف أتناول هذه المفردة: متى نشأت؟ وما هي حدودها في البداية؟ ومن تبناها؟ وهل رعاها الأئمة قبل عصر الغيبة أم كانت وليدة ما بعد الغيبة؟ وما هي مراحلها التي مرت بها؟ وهل صحيح ما يدعى اليوم أن فلتاناً بات يسود الساحة حتى في واقعها المرجعي؟ وهل أن المؤسسة المرجعية بهذا الكيف صالحة أن تتولى زمام الأمور في الأمة؟ أو لا بد من إجراء التعديلات عليها من هنا أو هناك؟

كما أتناول إن شاء الله التشكيكات المطروحة، وهل لها نصيب من الواقع؟ وهل ترقى إلى مستوى القبول بناء على الدليل المطروح إزاءها؟

كل هذا سوف نقرؤه بروح كلها انفتاح على الآخر، وقبول للرأي الآخر.      

نسأل الله تعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.