نص خطبة: الإمام الجواد عليه السلام ومدرسة التجديد

نص خطبة: الإمام الجواد عليه السلام ومدرسة التجديد

عدد الزوار: 446

2013-10-22

في الحديث الشريف عن أبي هاشم الجعفري عن الكوكب التاسع من كوكبة آل محمد (ع) باب المراد، الإمام الجواد (ع) أنه قال: «إنّ في الجنة باباً يقال له المعروف، ولا يدخله إلا أهل المعروف»، قال أبو هاشم: فحمدت الله تعالى في نفسي، وفرحت بما أتكلف من حوائج الناس، فنظر (ع) إليَّ فقال: «نعم، دُم على ما أنت عليه، فإنَّ أهل المعروف في دنياهم هم أهل المعروف في الآخرة، جعلك الله منهم يا أبا هاشم ورحمك»([2]).

في ذكرى الإمام الجواد:

ليلة واحدة تفصلنا عن ذكرى شهادة هذا الإمام المسموم المظلوم، رمز الفقاهة، والإمام الذي أخذ بيد الجيل الصاعد في عصره في كل ضروب الثقافة ومشاربها، مختصِراً الكثير من المسافات، رغبةً منه أن يكون لأبناء ذلك الجيل من الشعور بالمسؤولية والنهوض بها ما يتماشى ومعطيات ذلك الظرف الذي نعرفه جميعاً.

فالإمام الرضا (ع) صحّح إخفاقةً وقع فيها أتباع مدرسة أهل البيت (ع) حيث حركة الوقف بعد الإمام الكاظم (ع) وأنفق الكثير من جهوده لردم تلك الهوة وتصحيح الأمت والاعوجاج في المسيرة.

والتفتت الدولة العباسية متمثلة في الخليفة المأمون لما يقوم به الإمام الرضا (ع) من دور تأصيلي وتصحيحي في الوقت نفسه، فسارعت للتخلص منه، فدسَّ إليه السم، في قصة معروفة لدى الجميع، فذهب إلى ربه إماماً شهيداً كآبائه وأجداده وأبنائه.

وانتقلت الإمامة الحقة للإمام الجواد (ع) بعد أبيه، والنصوص في هذا المقام كثيرة، صحيحة الإسناد، صريحة الدلالة، لا لبس فيها من قريب ولا من بعيد.

وقد أذهل الإمام الجواد (ع) على حداثة سنه آنذاك، الواقع السلطوي في قصر الخلافة. وكان قصر الخلافة في بعض فترات العباسيين يعني فيما يعنيه أن حضوراً علمياً قوياً تمَّ جلب الرؤوس إليه من جميع الأطراف، لتصبَّ في صالح القصر، بل إن كل واحد من هؤلاء كان يمثل مدرسة، وينهض بمشروع، ويتحرك نحو هدف. ومن المعلوم، كما أن للناس مصالح تجمعهم وتأخذ بهم إلى حياض السلطان في الكثير من الأحايين، فليس العلماء بدعاً من ذلك، إذا ربما كانت لهم الرغبة والمشتهى النفسي أكثر مما هو مودع في نفوس الآخرين.

والعلماء على مسيرة التاريخ، منذ البدائيات ومقامات الرسل الأولى، وللسلاطين دورهم السلطوي التجبري الاستهلاكي في التعاطي معهم، وكانت المقاربة أو الابتعاد تشتدّ وتضعف بحسب المصالح التي قد يتم تقاسمها بين الطرفين، وقد تكون في كفة أحدهما أرجح، وفي الأعم الأغلب تكون لصالح السلطان أو الخليفة أو الحاكم أو الزعيم.

البعد العلمي والثقافي في حياة الإمام الجواد (ع): 

من هنا فإن الإمام الجواد (ع) عندما استُدعي إلى قصر الخلافة، وهو القصر الذي يعج بأرباب (العلم والمعرفة) في المعنى العام، أحدث إرباكاً كبيراً، لأن أوراقهم لم تكن مرتبة وفق أصول ثابتة ومستقرة، إنما هي عبارة عن أفكار تم لملمتها لا على أساس من القاعدة والأصل، إنما على أساس المصلحة.

فعندما نفذ الإمام الجواد (ع) إلى قصر السلطان، الخليفة العباسي، كان نفوذه على أساس الحقيقة، لا على أساس المصلحة، لذا أحدث انقلاباً جوهرياً في داخل القصر، واستطاع أن يأخذ بأتباع مدرسة أهل البيت (ع) إلى مشارب متعددة، لأن الموقف والانطلاقة كان يعني فيما يعنيه القوة والاقتدار والصلابة والصراحة والحقيقة.

لقد نهض الإمام الجواد (ع) بالمشروع الثقافي وسط الأمة، وأحدث تغييراً نموذجياً لم يكن معهوداً ومألوفاً في أتباع مدرسة أهل البيت (ع)، خصوصاً بعد غياب الإمام الصادق (ع) حيث بدأت بعد غيابه الشدة والضغط والاستئصال وتتبع أتباع مدرسة أهل البيت (ع) على أساس الهوية والعنوان.

فربما يحاول البعض أن يصبغ سيرة المأمون على أنها الأنقى والأصفى، والحال على العكس من ذلك تماماً، فبقدر ما كان الخليفة العباسي يتمظهر بمظهر البساطة وحب المعرفة وتقديم العلماء، والحد والتحجيم من حركة العسكر في البلاط العباسي، إلا أنه استطاع أن يمارس دور الخليفة الأموي الأول معاوية، ولكن بحرفة لم يستطع معاوية داهية العرب
ـ كما يوصف ـ أن يصل إليها. فإن كان معاوية يقول: إن لله جنوداً منها العسل، فإن تلك العملية لم تحقق ما هو المرجو منها في الكثير من المجالات، بل ربما أحدثت إخفاقاً، وخير دليل على ذلك عدم القدرة على التخلص من عمرو بن العاص، الخصم اللدود للخليفة الأموي. أما المأمون فقد استطاع أن يتخلص من كل من أراد أن يتخلص منه في حياته، ولم يستبقِ منهم أحداً، سواء من قرابته، أم من كان يخشاه، أم من كان يظهر له حباً. فقد تخلص من الكثير من رموز بني العباس الذين تحركوا في اتجاه معاكس لما كانت عليه سياسته.

لقد تخلص من رأس البيت العلوي، المتمثل بالإمام الرضا (ع) وبقتله وأد الكثير من النفسيات. كما تم التخلص من أقوى رجل عنده، كان يُعدُّ الأكثر حنكة ممن تقدمه من رموز الميادين العسكرية، وهو وزيره وقائد جيشه([3]). 

في خضم تلك الظروف، والأوراق المختلطة فيما بينها، استطاع الإمام الجواد أن ينفذ، وأن يثبت قدماً، ويؤسس لمعارف كبيرة.

بين العلم والثقافة:

أيها الأحبة: هنالكم مساران، الأول مسار العلم، والثاني مسار الثقافة، فربما كان العالم عالماً في ضرب من العلوم، إلا أنه لا يمتلك ثقافة، ومما لا شك فيه أن لهذا الأمر انعكاساً حتى على استنباطاته. والعكس صحيح أيضاً، فربما كان هناك مثقف ليس بعالم، بمعنى أنه لا يمتلك أصول العلم، والاستنباطات على أساس الأصول والقواعد، ولا يستطيع إرجاع الفروع إلى أصولها، ولم يمسك بأسبابها، وبذلك يكون الأثر سلبياً على استنتاجاته العلمية.

والمبدعون في التاريخ ـ خارج حدود دائرة المعصومين (ع) من أنبياء ورسل وأولياء وأوصياء ـ قلّة، فقد استطاع هؤلاء أن يمسكوا بأصول العلم وقواعده، ويردوا الفروع في الكثير من الموارد إلى مناشئها وأصولها، إلى جانب ثقافة عريضة تمتد من المشرق إلى المغرب.

وبإطلالة سريعة نرى أننا حتى في الرسالة العملية المسماة بالفتاوى الواضحة لسيدنا الإمام الشهيد، السيد محمد باقر الصدر (قدس سره) نلمح إيماضةً لو اهتدى بها الباحث أو المتابع فسوف يصل إلى نتيجة، وهي أن العلم والثقافة يفترض أن يكون بينهما توأمية والتحام في تشكيل شخصية الفقيه، ومع الفصل بين هذين المسارين، يحدث التشخّص والتشكل وفرض أمر الواقع أحياناً للفقيه في وسط الأمة، إلا أن المسيرة تبقى محكومة بحدود ما يتمثل فيه ذلك الفقيه من علم في أصوله، ومعرفة في أبعادها.

الانفتاح على المدارس الأخرى:

من هذا المنطلق وجد الإمام الجواد أن ثمة خللاً واضحاً بيناً في مسيرة أتباع مدرسة أهل البيت (ع) ألا وهو عدم الانفتاح الكافي على المدارس الأخرى.

وربما يؤاخذني البعض على هذا الكلام، ولكنها من القضايا التي قامت عليها الكثير من الأدلة، وما عليك إلا أن تراجع موروثنا لتستكشف ذلك، بل كان الأمر على العكس من ذلك تماماً، فبعد أن غاب الإمام الصادق (ع) الذي أسس قواعد كثيرة لمدرسة الانفتاح على الثقافة العمومية الشاملة، حصلت الانتكاسة والرجوع والركون والتمسك ببعض الثوابت، لذا لا تجد إشارات واضحة وبينة ونصوصاً تحقق ما يضمن المواصلة لما بدأه الإمام الصادق (ع).

وباعتقادي أن الفترة التي عاشها الإمام الكاظم (ع) هي من أشد وأقسى الفترات التي مرّ بها أتباع مدرسة محمد وآل محمد (ع)، حيث كان أثرها السلبي واضحاً وبيناً على المدوَّنات التي كتبت في تلك الفترة. حتى أن الإمام الرضا (ع) عندما تسنَّم ولاية العهد، وبات يتحرك على أساس من موقع القوة، تم إشغاله بردّ الشبهات كي لا ينفتح على الآفاق من حوله فيفتتن الناس به أكثر مما افتتنوا، وحق لهم أن يفتتنوا، لأنهم قطعوا من الأعمار الكثير، وصرفوا من الجهود أكثر، ولكن ضمن حدود ضيقة، فلما جاء الإمام الرضا (ع) فتح باباً وكوة صغيرة، استشرفوا من خلالها واقعاً لم يكن مألوفاً في أوساطهم.

حقيقة الثقافة والمثقف:

والثقافة قد تُطرق من جانب خاص، وقد تطرق من جانب عام، ففي جانبها العام يقال عن الرجل الحاذق: إنه مثقف، وكذلك المتعلم، وهذا المثقف يفترض فيه أن يكون حاذقاً متعلماً صادراً عن ذوق وحسٍّ انتقادي وحكم صحيح، فلمَ نستكثر على مثقفينا إذا أسهبوا في واحدة من العبائر العابرة في قضية من القضايا؟ ولم لا نستوعبهم ونجلس معهم على بساط واحد؟ ولم لا ننفتح عليهم بقدر ما انفتحوا هم على الثقافة والواقع من حولهم؟ ولماذا نجرد سيف الاستئصال والإقصاء والتقطيع والتهميش والتسقيط؟ ولم يحاصرنا سلاح الإرهاب الفكري في منشئه العام في الدنيا، وفي منشئه الخاص ومطبخه وبيته الصغير أيضاً؟

فالإنسان المثقف بقدر ما يؤتى من علم، وبمقدار ما يتحرك على أساس من سلامة الذوق وحركة الحدس عنده، تتشكل عنده حالة من الرغبة في نقد الموجود القائم، سواء ما كان موروثاً، وهو الأعم الأغلب، أم المتشكل لتوِّه، فبهذه الملكات يكون للمثقف الرغبة في النقد، فينزع إليه انطلاقاً من ذلك.

والمجتمعات على قسمين: منها ما هو راكنٌ ساكنٌ جامد، على حد قوله تعالى: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُوْنَ([4]). ومنها ما هو منفتح. والمثقف عادة ما يصطدم بتلك الصخرة الصماء، فإما أن تتحطم أحلامه وينتهي، وإما أن يحمل نفساً هي أشد صلابة من تلك الصخرة الصماء، فيجعل كل من تجمهر بداخلها أو من حولها يتحطم على صخرة صموده الثقافي والعلمي والاعتقادي.

وهنالكم أيضاً حكم صحيح، لا بد أن يكون هو الغاية أو الرغبة التي يتحرك على أساسها المثقف، وإلا فإن مجرد العلم بالمعرفة، وسلامة الذوق، وحركة الذهن، والانطلاق على أساس من اعتقاد ما، لا يكفي ولا يشفع للمثقف أن يعطي رأياً، ما لم تكن هنالك قدرة على الوصول، مع الرغبة الجادة لتشكُّل حكم صحيح، تُصحَّح على أساسه مسيرة الأمة.

قد يقول قائل: إن المجتمع في النتيجة لا يقبل، ونعني بالمجتمع العامة، وليس المجتمع النخبوي. وسؤالنا نحن: متى تقبل المجتمعُ الجديدَ؟ هل تقبل من الأنبياء؟ ألم يقتلوا ويشردوا وينشروا بالمناشير؟ ألم يحبسوا في الطوامير؟ ولم يكن نبي الأمة محمد (ص) بدعاً من الرسل كما يقول القرآن الكريم، وقد تعرض أيضاً لسلاح الإرهاب الجاهلي، واليوم نرى سلاح الإرهاب الفكري والمصلحي الذي يطارد ويهدم ويستأصل.

وبقدر ما يكون المجتمع منفتحاً، فإنه ينسجم، وتسير الأمور بالشكل الصحيح.

ولدي همسة أخرى في أذن المثقف، أقول له: عليك أيضاً أن لا تناور كثيراً، لأن الانفتاح ما لم يكن مبنياً على أسس وقواعد، سرعان ما ينقلب وينهار، وهذا حاصل، فكم من المجتمعات التي انساقت وراء جمع من المفكرين والمثقفين والمتنورين ثم تخلت عنهم في منتصف الطريق، وهذا ما تجده من شرق الوطن الإسلامي إلى تخوم أفريقيا. فعلى المثقف أن يتسلح بسلاح الصمود.

إن الجهة الخاصة في الإنسان هي عبارة عن تسوية بعض الوظائف البدنية والعقلية عند الإنسان المثقف، ففي بعض الأحيان يكون الإنسان مثقفاً في فكره، لكنه ليس كذلك في لباسه وشكله، وأحياناً في بدنه وصورته، فليس جميع الناس يولدون كنبي الله يوسف الصديق (ع) أو كالإمام الحسن (ع) سبط النبي محمد (ص).

فالثقافة مصدر ثقف الرجل، أي صار حاذقاً، وحذقت الشيء، أي ثقفته، والرجل الموصوف بالحذق هو المنعوت بالفهم الثابت المعرفة، فيفترض بالمثقف أن يهتم بمظهره وبدنه، فقد تجد مثقفاً لديه الكثير من العلم، إلا أنك لا تطيق الجلوس إلى جنبه، فلا شكله ولا لباسه ولا هندامه يشجعك على ذلك.

وليس هذا من باب الاعتراض على رب العالمين، باعتبار أن هذا خلق الله، فهناك الكثير من الأمور الخَلقية يمكن تصحيحها، فللإنسان اليوم مدخلية في الكثير من الأمور الطبيعية.

بعضنا يربط الأمور جميعاً بعالم السماوات دون تمييز، في حين أن الله تعالى أوكل الكثير من الأمور لأسبابها الطبيعية. ومن هنا نجد أن النبي (ص) يقول: «لا تسترضعوا الحمقاء، فإن اللبن يُعدي، وإن الغلام ينزع إلى اللبن»([5]). فإن كان الأمر متعلقاً بالخلقة، فالحمقاء خلق الله أيضاً، ولا بد أن نسلم لكل شيء، ونتبع المسلك الجبري الذي أسس له الأمويون، وسار عليه من سار إلى يومنا هذا.

فبعض المدارس الفكرية الإسلامية ترى أن الأمور لا تسير باختيار الإنسان بالمطلق، فعندما يشرب الخمر فإنه مجبر من قبل الله تعالى على ذلك، والعياذ بالله. وأن السماء أرادت ذلك. وكذلك في الزنا والسرقة والقتل وغيرها من الكبائر. وهذا الفكر الجبري يُسوَّق على أنه فكر إسلامي، فمن يقتل إنساناً يكون مجبراً من قبل الله تعالى على قتله. هذا هو منطق بعض المدارس الجبرية. ولكن سَل هؤلاء: لم إذن المحاكم والقضاة؟ ولم الحدود والتعزيرات؟ ولماذا أرسل الأنبياء والرسل، وأنزلت الكتب والصحف والألواح؟ بل لماذا تسنُّ القوانين الوضعية؟ فهل من المعقول أن يسنَّ الملحد القوانين لحفظ الأموال والدماء والفروج، ونعلق نحن الأمور على الله تعالى بالمطلق، بدعوى أن كل شيء من عنده، خيراً كان أم شراً؟

من هنا نجد أن نتيجة هذه البضاعة الفاسدة دماء تطل وتسفك ليلاً ونهاراً، وأعراض تهتك، ويتقرب بها إلى الله سبحانه وتعالى، وأطفال صغار يذبحون على مذهب ومسلك الفتاوى الجائرة.

فالإمام الجواد (ع) أراد أن يصحح، بأن يترك مساحة للمثقفين ليأخذوا مكانهم. فإذا جار الحاكم، وتخلى العالم عن علمه، فعليهما لعنة الله، فكيف إذا حصل الاصطفاف، وصار كل منهما يمهد للآخر.

ولم يكن الإمام (ع) يتحرك إلا على أساس أصيل، قوي، متين المنطلق، وهو الرافد الأول المتمثل بالقرآن الكريم المنزل من السماء على قلب الحبيب المصطفى محمد (ص).

الإمام الجواد (ع) مؤسس مدرسة التفسير الموضوعي:

لقد أراد الإمام (ع) أن يؤسس لمدرسة التفسير الموضوعي، والبعض يحاول اليوم أن يجعل مدرسة التفسير الموضوعي للقرآن الكريم من الأمور المستحدثة، وأنها فتح الفتوح لبعض العلماء والمراجع، وهذا جهل بتاريخنا، وعدم وقوف على المعطيات والمفردات النيرة في حياة أئمتنا (ع). فأول من أسس لهذا الفن هو الإمام الجواد (ع) ودونكم الآيات التي فسرها، والمصاديق على ذلك كثيرة، من سؤال السائل عن الصمد، وسؤال الآخر عن الواحد. فقد كان (ع) يتحرك على أساس من موقع التفسير الموضوعي.

مدارس التفسير:

كانت هنالك مدرستان للتفسير، الأولى هي مدرسة التفسير التقليدي، التي غطت معظم المساحة فيما تقدم الإمام الجواد (ع) من فترة زمنية. ولهذه المدرسة امتدادات، ولم يتخلَّ عنها أربابها، بل لا زالوا يكافحون وينافحون، على أنها بقدر ما قدمت لنا من العطاء، جعلتنا ندفع الكثير من الثمن.

لقد أسس للتفسير التقليدي من أسّس، وسار عليه من سار، وهو يحقق رغبات ومصالح معينة، حتى أن السلطات لم تكن منزعجة كثيراً من ذلك المسار، وهو البقاء على التفسير الموروث. وقد تأثر معظم علماء الإمامية في مدارسهم التفسيرية وكتبهم بهذا المسار، وهو المسار الطاغي المطبق على مسارات المذاهب في التفسير عند العامة، إلا في بعض الأقلام القليلة في الفترات الأخيرة، أي أنهم تأخروا كثيراً في هذا الحقل، لا سيما أتباع المدرسة الأشعرية. أما المدرسة الإمامية، فكانت قد تحركت ولكن بخجل.

وهناك رواية عن الإمام الباقر (ع) أسيء فهمها في هذا الباب، فكانوا يتمسكون بها في الكثير من الأحايين.

يقول الإمام الباقر (ع): «ما يستطيع أحدٌ أن يدّعي أنه عنده جميع القرآن كله، ظاهره وباطنه، غير الأوصياء»([6]). ومعنى الرواية أن من لديه العلم التام بالقرآن، ظاهره وباطنه هو المعصوم، وقد فهم منها البعض أن لا يفسر القرآن أحدٌ غير المعصوم.

ونتقدم قليلاً في فهم النص فنقول: إن الإمام (ع) أراد من ذلك أننا عندما نستنطق نصاً ما لنعرف كنهه، لا بد أن نرجع للمعصوم، فهو الأعرف بذلك. ولكن يبقى السؤال قائماً: إذن لماذا لم يسألوا الإمام آنذاك؟ وهل أنهم سمعوا كلامه ووعوه ثم خالفوه؟ وإن لم يكن ذلك، فلمَ لم يتحركوا إذن وفق معطيات الإمام (ع) ويحدثوا مدرسة التجديد من أول يوم، دون الحاجة إلى فترة الجمود والسكون والركون وما إلى ذلك. حتى أن الشيخ الطوسي (رحمه الله) وهو من أعلام الطائفة، والمؤسسين الكبار، له فتوى في هذا المقام، يقول فيها: إن تفسير القرآن لا يجوزُ إلا بالأثر. أي لا بد من وجود الرواية التفسيرية، وإلا فلا يجوز.

أما مدرسة التجديد، فهي التي تعنينا اليوم. والبعض منا لا يرغب في إثارة مثل هذه الموضوعات، وهو مصداق لمقطوعة شعرية لأحد الشعراء العراقيين، وكأنه يقرأ الحالة المأساوية التي نعيشها في مجالسنا واجتماعاتنا، حتى في بعض أروقة حوزاتنا.

يقول هذا الشاعر مخاطباً أحد المفكرين في الطائفة، وهو الإمام الشهيد السيد محمد باقر الصدر (قدس سره) لأنه حورب في زمنه، بل قيل عنه إنه ليس من أتباع مدرسة أهل البيت (ع):

دُم للحقيقة صوتاً لا تجافيها     إن الحقيقة تشكو من يواريها

إن الحقيقة باتت جدُّ ضائعة     بين الذين تمادَوا في تعاميها

لا تخشَ فيها عذولاً رأيه سفهٌ    فالحق يعلو ولا يعلوه تسفيها

يا بنَ الذين بها لله قد عملوا      وجدك المرتضى أحيا معانيها

كن للذين عموا نوراً لأعينهم    وللذين أضلوا السير حاديها

هذه هي الحقيقة، باتت اليوم ضائعة بين أولئك الذي يعملون دائبين على طمسها، وهناك طابور يمكن أن نسميه (الطابور السادس)، كل همه أن يطمس الحقيقة باسم الدين وتحت شعار التدين.

إلا أن الحق يعلو، فما دامت الكلمة حقاً فإنها تبقى مهما فعل السفيه واجتهد في طمسها. لذا نرى أن كل سفهاء الدنيا اجتمعوا على محمد وآل محمد (ع) منذ اليوم الأول وحتى يومنا هذا، من أجل طمس الحقيقة، إلا أنها بقيت شاخصة متجسدة بمحمد وآل محمد (ع).

وما أجمل البيت الأخير الذي طالب فيه المخاطب أن يكون نوراً لمن عمي عن إبصار الحقيقة، وقائداً لمن ضل الطريق. ولا أحد فينا يدعي العصمة، فإن وقعنا في خطأ فإننا نسأل هؤلاء أن يقدموا لنا النصح والتوجيه والإرشاد، وسوف نتقبله منهم بصدر رحب.

لقد بدأت حركة التفسير التجديدي لدى المدارس الشقيقة في القرن الخامس الهجري تقريباً، أما عند مدرسة أهل البيت (ع) فإن الإمام الجواد (ع) كان هو العمدة فيها.

والكلام في هذا المقام يطول، وسوف نتركه لمناسبة أخرى إن شاء الله تعالى.

نسأل الله تعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.