نص خطبة:إدارة الخلاف والاختلاف ـ 2

نص خطبة:إدارة الخلاف والاختلاف ـ 2

عدد الزوار: 1090

2015-04-10

«يا عقيل، انظر لي امرأة ولدتها الفحولة من العرب».

عظم الله أجورنا وأجوركم في ذكرى وفاة السيدة الجليلة منجبة الشهداء، أم البنين، وشفعها الله فينا وفيكم، وكتب الله لنا ولكم شرف الوصول إلى عتبتها.

عوامل الاختلاف:

فيما تقدم فيه الكلام من الخلاف والاختلاف، كان تأسيس المطلب على تقسيمٍ، تفرّع عنه تقسيم آخر، ثم شرعنا في ذكر الأسباب المؤدية للاختلاف بين أبناء الأمم والشعوب والقبائل والأسر، وقد ذكرنا لذلك سببين، وها نحن نكمل سائر الأسباب:

3 ـ التسلط والاستعلاء على الناس: وهو الداء الذي يشكل سبباً لوقوع الاختلاف الذي يجر إلى سفك الدماء في الكثير من الأحايين. وقد حذر منه القرآن الكريم، وساق عليه الكثير من الأمثلة. يقول تعالى في سورة القصص: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ‏ عَلَا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي‏ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِيْنَ([2]).

لقد كانت المشكلة في ذلك الرجل المتسلط المتفرعن، الذي لم يرَ للنفس البشرية قيمةً، حتى ذهب به زهوه وغروره إلى ادّعاء الربوبية.

والذين ذهبوا ضحايا لعنجهية فراعين الأمم على امتداد السير البشري أكثر من أن يُعدُّوا، كما أن الفراعنة منتشرون في صفحات التاريخ الماضي، أو التاريخ المعاصر الذي سوف تقرؤه الأمم القادمة إذا ما كُتب البقاء للبشرية.

إن فرعون وإن كان علماً على شخص، إلا أن له القابلية للانطباق على كل متسلطٍ مستعلٍ، فربما يتربع في صدور الكثير من الناس نماذج مصغرة لذلك الفرعون الكبير، دون التفاتٍ إلى هذه الحقيقة، إلا أنها تتجسد، كلٌّ بحسبه، ومن خلال موقعه، فالأب في داخل الأسرة قد يتحول إلى فرعون، فيما يكون الأبناء والزوجة أشبه بالعبيد، بل لا يرضى منهم إلا أن يقدِّموا فروض العبودية، ولكن في قالب أدنى مرتبة من ذلك القالب. أما التمظهر بصفة العبودية بين يدي رب الأسرة فلا يرضى بأقل منه. والنماذج كثيرة في هذا المجال، إذ يحدّثُ الأبناء أحياناً عن قصص تحدث لهم مع آبائهم، لا تجد لها تفسيراً إلا أن تُدخل ذلك الأب في دائرةٍ تحاطُ بحروف لفرعون فيها نصيب.

وقد ذكرت في الأسبوع الماضي أن في أدبياتنا ما يدلل على أن الظلم متأصل في شخصية الإنسان، وهو ما يعكسه البيت الشهير:

والظلمُ من شيم النفوس فإن تجد    ذا عفةٍ فلعلَّةٍ لا يظلمُ

 فكأن الظلم سجية من سجايا الإنسان، ولولا هذه السجية لما بُعث الأنبياء والرسل، إنما بعثوا لكبح جماح تلك الروح المتفرعنة التي تشتد وتضعف فيما بين الأفراد، حتى تصل إلى أولئك الذين يعتلون صهوة القيادة في الأمم والشعوب.

ففي الاتحاد السوفيتي السابق، نجد مشهداً لا ينطبق عليه إلا عنوان الفرعنة، وهو المشهد المتمثل بالزعيم «ستالين» الذي قتل بسببه اثنان وعشرون مليوناً من البشر.

وعندما تدلف قليلاً نحو الغرب، يرتسمُ أمامك فرعون آخر أنسى ذكر الفراعنة الذين تقدموا، وهو «أدولف هتلر»، الذي قتل بسببه ستة عشر مليوناً من البشر.

إن البعض ربما يتعجب عندما يسمع أن هناك مئات الآلاف يقتلون اليوم، ولكن أين هذا من ذاك؟ لا لأننا نقلل من قيمة الإنسان، لكن الظلم هنالك أوضح وأبشع. والحصيلة أن الجميع لا يعير أهمية للإنسان، فلو كان للإنسان قيمة في ميزان أولئك الفراعنة لما أريقت الدماء، ولكن حيث إنهم لا يتعاملون مع الإنسان كإنسان، تُصبح الدماء أنهاراً جارية في أكثر من موقع وموقع لغياب المحاسب والرقيب، وما الأمين العام للأمم المتحدة «بانكي مون» اليوم إلا أشبه بطرفة يتندّرون بها في المحافل ووسائل التواصل الاجتماعي. وقد كان الأمين العام الأسبق «كورت فالد هايم» أهون شراً من هذا، إذ تجد له حضوراً ما وأثراً في الكثير من النزاعات، إذ تجد أن إيقاف إطلاق النار مثلاً، في مكان ما من العالم، يحدث قبل إصداره، وتجد أن الطرفين المتحاربين توقفا فعلاً عن إطلاق النيران قبل صدور القرار، لأن الأمم المتحدة المتمثلة آنذاك بأمينها العام كان لها قيمة وحضور أكثر فاعلية، والمتوخى منها حفظ الإنسان. أما اليوم فالكثير من المجازر على وجه الأرض ممضاة من قبل أكبر شخصية سياسية في عالمنا، وهو الأمين العام للأمم المتحدة. وهذه واحدة من الانتكاسات المولدة للمفارقات الكثيرة، في أكثر من اتجاه واتجاه.

إنني كثيراً ما أكرر القول: إننا في مسيس الحاجة أن نسترجع التاريخ في جميع مفردات حياتنا، كي لا نستغرب أو نستصعب ما يجري، سواء التاريخ الملاصق، أم المضاف، أم المجرد، ففي المحاور الثلاثة لنا نصيب. وقد تكتب الشعوب قدرها على نفسها أحياناً، فلا تخرج من دائرة ما كتبت ورسمت وقيدت.

لقد وجد فرعون أمةً، فساقها إلى لمسار الذي كان يرغب أن تتجه إليه، ولم نجد إلا رجلاً واحداً أعلن التمرد، وهو نبيُّ الله موسى، الذي أرسلته السماء لإنقاذ البشرية آنذاك، وكان أعزل إلا من عصا: ﴿قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلَى‏ غَنَمِي‏ وَلِيَ فِيْهَا مَآرِبُ‏ أُخْرَى‏([3]). لكنها عصا فيها لمسة الإعجاز، وتجسيد عوالم الغيب في عالم الشهود، لكن فرعون لا يفقه هذه الحقيقة ولا يدرك المآرب الأخرى، وما هي إلا أيام حتى انقلبت الأوضاع وصارت الكلمة للمستضعفين في الأرض، وذهب ذلكم الذي كان يدّعي الربوبية من دون الله، فلم يرضَ حتى بالشراكة مع الله، إنما ادعى التفرد بالربوبية له وحده: ﴿فَحَشَرَ فَنَادَى ~ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى([4])، وهكذا تكون الغطرسة.

إن الطاغية في وسط الأمة إذا أراد أن يسوس الأمور في فإنه يبني على قاعدة فرّق تسُد، فيقرّب طرفاً، ويقصي طرفاً، ويعطي امتيازاً، ويلغي آخر، وهكذا، وهو ما نجده في التاريخ قديماً وحديثاً.

4 ـ التجمعات المشبوهة التوجه في وسط الأمة: وفي الأعم الأغلب تكون مادة هؤلاء من المنافقين ـ والعياذ بالله ـ وقد ابتلي النبي الأعظم (ص) بهذه الجماعة، ولا زالت إلى يومنا هذا تُنجب وتتوالد، بل قد تُصنع ثم تطرح في وسط الأمة، لتجري بعد ذلك في شرايينها ومفاصلها، فيصبح المجتمع كالمصاب بفقر الدم المنجلي، لا تسمع منه سوى الصراخ والأنين، فعندما ينتشر المنافقون في الأمة، وهم المرجفون في المدينة، وأتباع كل صيحة، فلا شك أن الأمور تسير بهذا الاتجاه.

لقد بنى النبي (ص) مسجد قبا، ثم شرع في بناء مسجده في المدينة، فلما غاب فترة وجيزة اجتمع جماعة ممن تحركت فيهم حسيكة النفاق ليبنوا مسجداً. ومن المعروف أنه ليس هناك منتَج للنفاق إلا ولليهود فيه يد، منذ أن عرفت هذه الجماعة في التاريخ وحتى يومنا هذا. فتارة تكون الممارسة واضحة مكشوفة بيّنة، كما فعل أبو سفيان مثلاً يوم قال لأمير المؤمنين (ع): لو شئت لأملأنها عليهم خيلاً ورجالاً. وأحياناً أخرى تكون تحت ستار آخر. فهناك من يتستر تحت مظهر القداسة وكثرة التسبيح ومزاحمة العلماء بالركب وأمثال ذلك، لكنه إذا اصطكت الأسنة انتحى جانباً، واتخذ موقفاً معاكساً لما كان ظاهراً من حاله.

لذا بحث المنافقون عن موقع يضمن لهم الستر والعافية وتمرير المقاصد السيئة، فلم يكن هناك أفضل من المسجد، فهو غطاء ديني مقدس يمكنهم التستر تحته، فشرعوا في بناء المسجد المعروف، وطلبوا إلى النبي (ص) أن يفتتحه لهم بالصلاة ركعتين فيه. وهذا هو شأن النفاق والمنافقين، ومساجد الضرار في وسط الأمة كثيرة، فالمسجد الذي تصدر منه إباحة دماء المسلمين أو انتهاك أعراضهم أو استلاب أموالهم أو إيقاع الفتنة بينهم هو من ذلك العنوان.

من هنا تدخلت السماء لتضع حداً لذلك، كي لا يصبح هذا المشروع حالة مأنوسة مقبولة وسط الأمة، فأنزل الله تعالى: ﴿وَالَّذينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيْقَاً بَيْنَ الْمُؤْمِنينَ وَإِرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى‏ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ([5]).

فهؤلاء لم يأتوا من جنوب جزيرة العرب آنذاك التي لم تكن مسلمة آنذاك، ولا من شمالها الذي لم يسلم بعدُ، إنما هم نخبة من المجتمع المدني، من المهاجرين والأنصار، الذين أرادوا أن يضعوا حجر أساس في مقابل مسجد رسول الله (ص). فأمر النبي (ص) بهدمه وحرقه.

فحالة التجمعات المشبوهة في وسط الأمة موجودة، والعياذ بالله. والمساجد اليوم لا زالت تحافظ على نسق القدسية، وفي الوقت نفسه نجد أن الذين يحاولون أن يرجفوا في المدينة لا رغبة لهم في المساجد في طابعهم العام ـ وليس الطابع الخاص المتمثل بالدواعش وأمثالهم ـ فهنالك خطر لا يقل ضرراً على الأمة من هؤلاء الدعاة لإراقة الدماء، وهم الذين يسعون في التكايا والخفايا لتشكيك الناس في أصول معتقداتهم، والنيل من مقامات الأنبياء والأولياء والصحابة الصالحين، وهي جماعة تنسج كما ينسج العنكبوت، وفي أكثر من موطن وموطن، لذا لا بد من اليقظة والحذر في مثل هذه القضايا، على أن لا نقع في دائرة الاختلاف المفضي إلى التصفية، إنما بالحكمة والموعظة الحسنة، ولو كان ثمة ميزان أفضل وأقصر في الوصول للنتائج المرجوة غير ذلك الميزان لما ابتعد عنه النبي الأكرم (ص) والقرآن الكريم. قال تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيْلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ([6]).

5 ـ قراءة النصوص الدينية قراءة ملتوية: فقراءةُ النص الديني، تارة تكون بعين العالم البصير بقواعد الاستنباط والبحث والتحقيق الذي ينتهي بها إلى نتيجة، وأخرى بعين الطفيلي الذي لا حظ له ولا نصيب في باب الأصول والقواعد، ثم يريد أن يستنبط ويستنتج. وبطبيعة الحال ما رفعت راية ضلال إلا وكان لها أنصارها، فأنصار إبليس على وجه الأرض أكثر من أنصار الحق، وهذا ليس جديداً على الدنيا، فجنود إبليس منذ الزمن القديم يطبقون الأرض ويشغلون أكثر المساحات.

فأصحاب هذه القراءة يجعلون من النص الديني أداةً لأغراضهم، فيؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، قال تعالى: ﴿الَّذِيْنَ جَعَلُوْا الْقُرْآنَ عِضِيْنَ([7])، إذ يعمدون إلى النص القرآني، فيلوون عنقه لصالح قضية معينة. أما في الروايات فالأمر أسهل وأيسر، لأن الروايات قابلة لأن تنسب إلى مدارس، فيقال: هذه الرواية من تلك المدرسة، وهذه الرواية من هذه المدرسة، أما القرآن الكريم فلا يمكن فيه ذلك، لأنه لجميع المسلمين، فليست هناك آية للسنة وأخرى للشيعة، لأنه رسالة الإسلام، ودستور السماء الذي خوطب به الأمين بواسطة الأمين. إلا أن هناك من يفسر النص كما يحلو له، ويؤمن ببعضه ويكفر ببعض. قال تعالى: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ‏ الْكِتابِ‏ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى‏ أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُون‏﴾([8]). وقد صدق الله تعالى وعده لهؤلاء بالخزي في الدنيا، إذ ترى أن أحدهم يتستر، وإذا ما أراد أن يرفع عقيرته بحث عن موطنٍ يأمنُ فيه الردّ، لأنه عاجز عن المواجهة على أساس المنطق والدليل، فيصطاد في الماء العكر، ويتحرك في الظلام، وينمو ويستشري في المياه الآسنة، وإلا فكيف يمكن لأحد يُعرض عليه هذا المنبع الصافي الذي قوامه الكتاب الذي خوطب به النبي الأعظم (ص) وبين حدوده ومعطياته محمد وآل محمد (ص) ثم يعرض عنه إلى غيره؟

إلا أن هؤلاء مهما تستّروا فلن تخدمهم الظروف، فصحوة الإيمان هبّت، وبات الإنسان يعتز بها، على أنه كان وما زال يعتز بها، لكن الأرقام والدلائل والمؤشرات لا تصب في صالح تلك الطحالب، إنما تصب في صالح المستضعفين في الأرض: ﴿وَنُريدُ أَنْ نَمُنَّ‏ عَلَى‏ الَّذِيْنَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثينَ([9]). 

علاج الاختلاف:

بعد استعراض الأسباب والعوامل المتقدمة، لا بد أن نبحث في القرآن الكريم عن الحلول الناجعة، فالقرآن الكريم لا ينكأ الجراح، إنما يشخص العلاج، فكل ما يثيره إنما هو لتهيئة الأمة لتقبُّل العلاج. وأبرز مصاديق العلاج:

1 ـ القرآن الكريم: وهو أبرز علاج ساقته السماء لأهل الأرض، وفيه شفاء ورحمه، لكن الأمة أدارت ظهرها له، فلو غاب الحسد لغاب الكثير من أنواع الأمراض، ولو غاب البخل لاختفت الكثير من المشاكل، وعلى هذه فقس ما سواها. فهذه الأمراض النفسية التي تشحن صدور الكثير من الناس سببها الابتعاد عن المنبع الصافي، وهو القرآن الكريم.

2 ـ السنة المطهرة: ولكن المؤسف أننا وإن كنا ندّعي الانتماء لعلي وآل علي، إلا أننا بعيدون عن تراثهم، ولا نعرف عنه إلا القليل، فقد لا يملك بعضنا في بيته ما يشتمل على تراثهم ليلوذ به عند الحاجة. بل قد لا يملك البعض حتى رسالة عملية في بيته يصحح أعماله على ضوئها، فضلاً عن مجاميع حديثية لأهل البيت (ع).

إن المتردد على روايات أهل البيت (ع) قراءة أو استماعاً أو استظهاراً لا شك أنه يشعر بحالة من النورانية لأنه اقترب منهم، والعكس صحيح. ففي الحديث الشريف عنهم (ع): «من حفظ من أحاديثنا أربعين حديثاً بعثه الله يوم القيامة عالماً فقيهاً»([10]). فالفقيه ليس القادر على استنباط الأحكام الشرعية فقط، فهذا مصطلح ضيق في الحوزات العلمية، أما في اللغة فمعناه أوسع من ذلك كما هو واضح.

يقول تعالى في علاج هذا المرض: ﴿وَلَا تَكُوْنُوْا كَالَّذِيْنَ تَفَرَّقُوْا وَاخْتَلَفُوْا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيْمٌ([11]).

إن البعض يظن أن الذنب هو ما استبشعه الناس بسبب ظهوره الموجب للنفرة، كالسكر والزنا وغيرهما، ولكن هنالك أمراض أشد فتكاً، ومنها الاختلاف.

3 ـ العلم والمعرفة: فمن العوامل التي تساعدنا على الهروب من الاختلاف فيما بيننا امتلاك العلم والمعرفة، ولا علم ولا معرفة تنجينا إلا ما استمدت جذورها من محمد وآل محمد (ص).

4 ـ روح التحدي: بأن يمتلك الإنسان روح التحدي مستعيناً بالحق لا بالباطل، وأن يستقوي بالله وكتابه وسنة رسول الله (ص) وهدي أولياء الله ومعطى العلماء الأمناء على شرع الله، أما أن يقرأ كتاباً هنا، ومقالة هناك، ثم يضرب بيده على صدره قائلاً: إن ههنا لعلماً جماً، فلا بد أن نقول له: كفى.

5 ـ أن نعيش الواقع بكل أبعاده: لا أن نهرب من واقعنا، حلواً كان أو مراً، فلا بد أن نتعامل معه كما هو بحسب الآليات، كي نصل إلى الهدف. أما أن نهرول إليه إن كان حلواً، ونهرب منه إن كان مراً، فهذا ليس ميزان محمد وآل محمد.

6 ـ التمسك بالثوابت: وعدم التخلي عنها مهما كانت الضريبة، وهذا ما دفع ضريبته الخلّص من أصحاب أهل البيت (ع). بل إن النشء كان يربى في بعض المراحل على التهيئة للقيام بالمسؤوليات والتكاليف عند الضرورة.

في ذكرى أم البنين:

فها نحن نجد أن الإمام أمير المؤمنين (ع) يطلب من أخيه عقيل أن يطلب له امرأة ولدتها الفحولة من العرب، وهذه صفحة ناصعة من صفحات إعداد النشء، إذ كان الإمام علي (ع) ينظر بعين الله، وكانت أحداث الطف مجسدة بين يديه، فكان يُعدُّ له عدته، وكانت مكة والمدينة وجزيرة العرب ملأى بالنساء، كنساء بني زهرة من قريش، وهم أجمل العرب. إلا أن علياً (ع) كان يبحث عما يتناسب مع الموقف والمرحلة، فالمرحلة تستدعي البطولة والإباء والتضحية، فلا بد أن يسأل عن ذلك، ليأخذ بأيدينا نحن أبناء القرن الخامس عشر لنرجع لذوي الاختصاص، وليقول لنا: ضعوا الأشياء في مواضعها، ولا تبخسوا الناس أشياءهم، فهذا خبير في التخصص الفلاني، وذاك خبير في التخصص الآخر، فعليكم أن ترجعوا إليهم لتنتفعوا بخبراتهم، وتضعوا أيديكم بأيديهم، ليكتمل البناء.

وهكذا رجع إلى أخيه عقيل، لا لأنه أخوه فقط، إنما لأنه كان الرقم الأول في علم الأنساب في المدينة آنذاك، وكانت له جلسة في المدينة في مسجد النبي الأعظم (ص) فلا يسأل عن قبيلة إلا أجاب.

إن موقع القبيلة ونظامها في عالمنا الثالث لا زال إلى يومنا هذا يسيّر شؤون الأمم، حتى بعض الأحزاب قد تكون تطورت عن نظام قبلي، وفي جميع الأحوال يكون النظام القبلي أفضل من الكثير من الأحزاب، لأن الأحزاب في معظمها مبنية على النهج البراغماتي، والقاعدة عند الحزب أن الغاية تبرر الوسيلة، أما القبيلة فلها ـ على الأقل ـ مبادئ وموروثات، وهذا لا يعني أن النظام القبلي في معظمه خال من الشوائب والملاحظات.

من هنا كان لزاماً على الجميع أن لا يهمل هذا الجانب، وأن يمنحه الكثير من الاهتمام، فهذا الإمام علي بن الحسين (ع) وهو سيد العابدين والزاهدين، والأبصر بمعالم الدنيا والدين، يقول في دعائه: «وأعزني في عشيرتي وقومي». فكثيراً ما يُحترم الإنسان لقبيلته، ويعطى أو يمنع لها، ويقدَّم في المجالس بسببها، فعليه أيضاً أن يحفظها ويرعى شؤونها بقدر ما كُرِّم لأجلها.

نعم، تزوج الإمام علي (ع) بأم البنين فأنجبت هؤلاء الأقمار، الذين قدمتهم يوم العاشر بين يدي الحسين (ع).

اللهم لا تفرق بيننا وبين محمد وآل محمد طرفة عينٍ أبداً، واكتب لنا في الدنيا زيارتهم، وفي الآخرة شفاعتهم. واكشف هذه الغمة عن هذه الأمة، ووحد كلمة المسلمين، وردّ كيد الكائدين، وحسد الحاسدين. 

نسأل الله تعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.