نص خطبة: آفة التخلف التي تفتك بالمجتمعات

نص خطبة: آفة التخلف التي تفتك بالمجتمعات

عدد الزوار: 958

2013-07-14

آفاق التخلف:

ما زالت الأمة تعيش واقعها المرير، حيث وطأة التخلف، وهي آفة العصر التي تفتك في مفاصل المجتمعات. والحديث ذو شجون، يحتاج الكثير من الكلام، ولكن سوف أحاول الاختصار قدر الإمكان.

فللتخلف المذكور آفاقه وأبعاده، ولولا وجود الأرضية الخصبة التي يتنقل على أساس منها رعاة هذا المشروع لما استطاعوا أن يأخذوا المجتمعات يميناً ويساراً دون قيد أو شرط.

والمشاكل والأزمات هي الأساس في التخلف والانحطاط الإنساني، لا سيما في أوساط المسلمين، في الوقت الذي يفترض أن يكون المسلم، بما يتمتع به من رافد قوي وهو الإسلام، سبّاقاً في الميادين، ورافعاً لراية التنوير والتطوير بكل مناحي الحياة.

فمن يصنع تلك المشاكل والأزمات وسط الأمة أفراداً وجماعات؟

إننا كأتباع معتقد يفترض أن نستفيد من القرآن، وأن نستنطقه ليحل الكثير من تساؤلاتنا، ويدفع الكثير من الاستفهامات التي تعترض بين الفينة والأخرى. وما هذا الواقع الذي نعيشه في خريطة العالم الإسلامي إلا نتيجة هذه الحالة، وهي القطيعة بين الأمة ودستورها ورافدها الأول وهو القرآن الكريم. فالأجدر بالقرآن الكريم أن يكون ربيع السنة، إلا أنه اقتطع من السنة شهراً واحداً يُزاحَم فيه. فشهر رمضان الذي يفترض أن يكون ربيع القرآن، ما عاد يحمل العناصر القادرة أن يتعاطاها الإنسان بناءً على أن هذا الظرف الزمني يمثل فترة اسمها الربيع.

ورغم ذلك، فمن المؤسف أيضاً، أننا ـ أتباع هذا المعتقد ـ لأننا ابتعدنا عن مبادئه وقيمه وتأسيساته، صرنا في الكثير من الحالات نبحث عن المخارج هنا أو هناك، ونلقي بالتبعات على غيرنا، وهذا لونٌ من ألوان التبرير اللامقبول. فالقرآن الكريم يصرح قائلاً: ﴿ظَهَرَ الفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ([1])، أي أنه ليس لعالم السماء والملائكة دخل في الواقع المرير والتخلف والانحطاط، ولا للجن دور في ذلك، إنما هو الإنسان بما هو إنسان، فهو الذي يصنع هذا الواقع، فيبدأ التخلف الفردي ثم يتسع ويأخذ أنماطاً ودوائر تتسع لتشتمل الواحدة منها على الأخرى.

وبعد أن يكون هنالك فساد وضياع وشتات وتخلف وانحطاط، تتدخل السماء في الأمر: ﴿لِيُذِيْقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوْا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُوْنَ([2]). فما تسببوا فيه من فساد سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي أو بيئي أو غيره، وهذا العمل الدؤوب المتواصل الذي تقف وراءه المؤسسات والأنظمة الأممية، يتجسد ويتبلور بعضٌ منه في صورة تتحرك في الخارج. وهكذا تلتقط الأمة بعض أنفاسها لتقرأ المشهد من حولها، وفي الكثير من الحالات تكون النتيجة كما قررها القرآن الكريم: ﴿وَلاتَ حِيْنَ مَنَاصٍ([3]).

والغاية من إذاقة الأمة بعض أعمالها ليس التشفي، فالسماء عنوان الرحمة، والله هو الرحمن الرحيم، وكذلك نبي الأمة، ورسول الرسالة الخاتمة، هو رحمة للعالمين بصريح القرآن الكريم، لكن الهدف هو أن ترجع الأمة لإنسانيتها. وفي أقل التقادير، أنها متى ما رجعت إلى إنسانيتها واعترفت بما تقدم منها، وأنها تستحق ما وقع عليها، فحينئذٍ ترتب الآثار على الرجعة، فقد تسير مع هذه الصدمة في اتجاه صحيح، وقد تسير في اتجاه عكسي، وهذا أيضاً واضح وبيّن لا يحتاج لمزيد من التوضيح، لأن الشواهد على هذه القضية أكثر من أن تعد أو تحصى في الماضي والحاضر، بل إننا بتنا اليوم نعيش التاريخ الذي كنا نستغربه في يوم من الأيام واقعاً مجسداً، من قبيل تساقط الأنظمة كتساقط أوراق الشجر في الخريف، فقد قرأنا في التاريخ أن الحاكم العباسي يوماً ما، بويع بالخلافة نهار الاثنين، وعُزل يوم الثلاثاء. وكنا نسمع في الزمن السابق أن خليفة المسلمين له مقامه واحترامه حين الخلافة، رغم ما يقوم به من الأدوار التي تهلك الأمة وترديها وتجعلها لا تعيش إلا واقع التخلف والانحطاط، فيلقَّب بأمير المؤمنين، وخليفة المسلمين، ويركع له أكبرهم احتراماً، لكنك ترى فجأة أنه يتهاوى ويسقط، من قبيل ما حدث للخليفة العباسي، الذي تفنن في استعراض جميع وسائل القمع في حق أبناء الأمة من حوله، فكانت نهايته أنه امتزجت قطع لحمه بالخمر الذي كان يحتسيه. وإن كنا بالأمس نستغرب، فإن التاريخ اليوم شاهد، ولو أردنا أن نستعرض لطال بنا المقام.

الاعتصام بكلمة التوحيد:

والسؤال المشروع: أليس ثمة مخرج من هذا النفق الطويل المظلم؟ الجواب: إن الإسلام تكفل بالحل، ودعا إليه، وضحى النبي (ص) من أجله، وهو دعوة للفلاح المطلق في الدنيا والآخرة: «قولوا لا إله إلا الله تفلحوا»([4]). ولكن كما قال الإمام الثامن (ع): «بشرطها وشروطها، وأنا من شروطها». وبمعنى آخر هو الإسلام المستقيم، وليس المعلَّب أو المجفف أو المحنط أو المشوه، الذي يسوَّق في أكثر من موقع وموقع، فإن المسلم إذا قال: لا إله إلا الله، والتزم بلوازمها، ورتب الآثار عليها، سما وارتفع، وسمت الأمة، وذلك بأن يجعل القرآن دستوراً، أما إذا جعل من الإسلام عنواناً وهوية، ثم لا يرتب على ذلك أثراً فإن النتيجة ستكون محسومة.

فالإسلام هو المنقذ الحقيقي الأول والأخير، وكيف لا يكون الأمر كذلك، وهو الرحمة للعالمين، والبشرى للصابرين، والبيان للمؤمنين العاملين؟ وبذلك تكفّل المسيرة بشرط واحد، وهو أن يكون للتقوى حراك في واقع الفرد المسلم. فإذا تحرك بعد التقوى ومفهومها وقيمتها في وجدان الإنسان، استطاع أن يستجلي الدروس، ويستنير الطريق، ويلمح الهدف، وسوف تقف الأمة من حوله. فما من إنسانٍ إلا وهو يطمح للوصول إلى الأكمل.

وبطبيعة الحال هنالكم رجل منقذ، تكفلت السماء أن يكون خاتمة الرجال الكمّل الذين ألقي بعهدتهم النهوض بمشروع الإنسان، وهو الخلف الباقي من آل محمد (ص). وها نحن نقرأ في الحديث: «كما ملئت ظلماً وجوراً»([5]). والظلم والجور ليس على إطلاقه وإطباقه، إنما هو الظلم والجور النسبي، الذي إذا قيس بظلم تقدمه يبقى يشغل المساحة المتقدمة على مساحة الظلم المتقدم الذي مرّ وانتهى.

مرحلة ما قبل الظهور... التخلف والانحطاط والهمجية:

لذلك على الإنسان أن يتصور الوضع المأساوي من التخلف والانحطاط الذي سيصاحب المرحلة ما قبل خروج الإمام المهدي (عج) فإن جميع عناصر التخلف والضياع والشتات سوف تكون قبل خروج الإمام المهدي (عج) وسوف يتعاطى الإمام المشهد بناءً على المعطيات الطبيعية بادئ ذي بدء، أما العنصر الغيبي فيتدخل عند الضرورة، فلا يظنَّنَّ أحد أن الإمام المهدي (عج) ينطلق في أول خطوة من خطواته على أساس المعجز، لينتهي في نهاية المطاف بالمعجز، بناء على وجود بعض الروايات، فهذه الروايات لا تعطي مداليل ذلك، صحيح أن المهدي (عج) مؤيد بعالم الغيب، والقوى الغيبية تحت سلطته واختياره، لكن السير الأولي سيكون سيراً طبيعياً.

وهذا ما يؤكد أمرين مهمين:

الأول: أن لا يتذرع أحدٌ على وجه الأرض أنه خلو من المسؤولية في دور التمهيد، إنما يتعين عليه أن يقوم بهذا الدور.

الثاني: أن المسار الطبيعي في الحقبة الأولية من الحركة الأولى للإمام المهدي (عج) ـ وهي مُنتجة ـ يفترض بمن يعتقد ويتبع حركته أن هذه المساحة متاحة له أيضاً.

فلو أن هذين العنصرين تمازجا فيما بينهما، استطاع الإنسان أن يتقدم ويقدم المحيط من حوله.

لذلك نجد أن السيد إمام الأمة (قدس سره الشريف) استطاع أن يمازج بين هذين العنصرين، ويجعل منهما واقعاً، ويؤمّن لبنةً في طريق التوطئة للمهدي (عج) سلطانه.

إننا نجد اليوم أن التخلف يتغلغل في جميع المفاصل والمناحي من عالمنا الإسلامي الكبير، بل في جميع أنحاء الدنيا، ويخطئ من يتصور أن الإمام المهدي (عج) يظهر لاستنقاذ شيعته فقط، فالحق أنه يخرج لإعادة الإسلام طرياً كما جاء به النبي محمد (ص). وحيث إن الأمر كذلك فيفترض أن لا نضع قيداً يضيق علينا دائرة معطيات حركة الإمام المهدي (عج) لأننا إذا أرجعنا الموضوع للمشروع الإسلامي فإن الإسلام من أجل الإنسان، لا من أجل فرد يقيَّد بإضافةٍ لجماعة ما.

وفي كربلاء شواهد كثيرة لذلك، بل إن حركة الإمام في بعض جوانبها تقدم بها التاريخ في صعيد كربلاء كصورة ومرآةٍ حاكيةٍ لغيب سيتجسد في عالم الشهود في يوم ما. فقد سمعنا وقرأنا أن جماعة من شيعة الإمام الحسين (ع) وأتباعه أخذوا يتخلون عنه تدريجياً، فقد تخلى عنه جمع بين المدينة ومكة، وجمع في مكة، وآخر بين مكة وزرود، وحتى في كربلاء، كما أن العكس قد حصل، فمن لم يكن معتقداً بالإمام الحسين (ع) إماماً، وكان يأبى أن يضع يده مع الحسين (ع) في خوان واحد، ناهيك عن الائتمام به في الصلاة، انقلبت صورة المشهد عنده تماماً، وأصبح علماً شاخصاً ورمزاً من رموز الشهادة نزوره ونتبرك به، فبينا هو عثماني الهوى إذا به رمز من أعظم الرموز. والأكثر من ذلك أن يتحول النصراني بهذه الصورة ليصبح علماً ورمزاً.

لذا فإن من يركب سفينة الإمام المهدي (عج) هو ذلك الإنسان الذي أعد نفسه لذلك الفيض، فقد لا يكون من أتباع من مدرسة أهل البيت (ع) في الساعة التي يؤذن للمهدي بالخروج، ثم يكون من أعوانه وأنصاره والمستشهدين بين يديه، والعكس صحيح، أي أن من لم يعدّ نفسه إعداداً يتوافق وحيثيات المرحلة المهدوية، يخرج من الطابور، ويقصى من مساحة الإمام المهدي (ع).

ألوان التخلف وأصناف الهمجية:

إذن هنالك تخلف يتمثل في عدة صور واتجاهات ومجاميع، والأكثر من ذلك أن التخلف تحول إلى همجية وشريعة غاب، وما عاد الأمر اليوم خافياً. فعلى سبيل المثال، عندما قتل الشهيد محمد بن الخليفة الأول أبي بكر، وهو ربيب الإمام علي (ع) الذي كان يقول فيه: «محمد ابني من صلب أبي بكر»([6])، لم يشفع له أنه ابن الخليفة الأول، إذ عمد والي مصر إلى قتله، والمثلة به بعد أن دسّه في جوف حمار وأحرقه. فلا يعجبنَّ أحد اليوم ويستغرب من مشهد من المشاهد التي لا تصدر عن وحوش مسعورة في غابة، فهناك العديد من النماذج التاريخية المشابهة، ومنها هذا المشهد. وهو ما دعا أم المؤمنين عائشة زوج النبي (ص) أن تدعو على قاتله في كل صلاة، لا على القاتل المباشر، إنما على من كان سبباً فيه، وهو أشبه بما ندعو به نحن في الزيارة فنقول: ولعن الله من أسس أساس الظلم والجور عليكم أهل البيت. فالمؤسس هو الأخطر، ونحن نرى أن هند بنت عتبة أسست مشروعاً وثقافة لأكل الأكباد. فعندما يتحول الإنسان من القيمة السامية إلى الدرك الأسفل من الانحطاط والهمجية يصدر منه الكثير مما لا يمكن توقعه.

وأذكر هنا حادثة، هي ليست من إخواننا السنة، وأعني بهم أصحاب الاعتدال في وسط الأمة، أما من لا يسير في نهج الاعتدال، سواء كان منا أم منهم، فليس من الإسلام في شيء، وإن تسمى بمسمى التشيع والتسنن في الظاهر. وملخص الحادثة ما حصل مع المرحوم السيد عبد المجيد الخوئي، وهو نجل المرحوم السيد الخوئي (قدس سره)، أحد مراجع الطائفة، إذ حصل له أكثر مما حصل مع ذلك الشهيد المظلوم، فقد ضرب وهو في ضريح الإمام علي (ع) وكان من ضربه شيعياً، ثم سحب من ضريح الإمام علي (ع) إلى بيت أحد رجالات الدين، فلم يسمح بإدخاله المنزل وتأمين حياته، وترك حتى مات ومُثّل به.

وخلاصة ما أريد قوله أن الإنسان إذا ما تخلى عن إنسانيته فلا شك أنه يصل هذه المراتب الدنيئة، شيعياً كان أم سنياً، مسلماً أم كافراً، كتابياً أم غير كتابي، صهيونياً أم غيره، إنما هو الإنسان بما هو إنسان، يتخلى عن إنسانيته، فيكون أسوأ من الحيوان المفترس، أما إذا عاد إلى فطرته التي فطره الله تعالى عليها.

وهناك همجية المستعمر، ومحركها الأول طغيان المادة، والرغبة في الزيادة، وهذا واضح، فلا يهم المستعمر أن يلقي قنبلة ذرية على هيروشيما لضمان الرصيد المالي، ولا سَوق الإنسان من أفريقيا تحت عنوان الرقيق ليستعبد، حيث يقذف بعضهم في المحيطات والبحار لأتفه الأسباب.

وهناك همجية المجتمع الدولي تحت عنوان الأمم المتحدة، فما كانت الأمم المتحدة في يوم ما، لا في زمن كورد فالدهايم ولا ديكويلار ولا قبلهما ولا بعدهما، إلا أسيرة، حيث يباع الأمين العام ويشترى بثمن بخس دراهم معدودة، وما عاد القرار الأممي يعصم دماً في منطقة من مناطق العالم، لأن الهمجية هي المتحكمة في اتخاذ القرار مع شديد الأسف.

وهناك همجية الأنظمة الحاكمة المتسلطة على المجتمعات على وجه الأرض، وربما يتصور البعض أن همجية النظام منحصرة في المجتمعات الإسلامية أو العالم النامي (الثالث) والحال أنه ليس كذلك.

أليست أمريكا أم الحضارة كما يُدَّعى؟ اقرأ قائمة العاطلين عن العمل، ستجد أنها بعشرات الملايين، وفي هذه البلاد من لا يجد لقمة العيش إلا من خلال النفايات. هذه هي أمريكا التي يعود منها بعض أبنائها فيتصور أنه عاد من الجنان، في حين أنه ذهب إليها من بلد غني، يعيش فيه مرفهاً مكفول المعيشة، فلا بد أن يعيش هناك حياة الرفاه، ولكنه لو تحرك من دائرة الجامعة أو المعهد الذي التحق به، وقرأ المشهد من حوله لرأى ما رأى. فما ليل أمريكا إلا قطعان من الحيوانات السائبة، لا كما يتصور البعض أو يصوِّر لنا.

إن المجتمعات التي تسوَّق لنا على أنها القدوة لا تمتلك الكثير من عناصر الشرف والعفة والإيمان والعبادة والتقوى والمحبة والعطف. ولا بد أن أذكّر أن هذه العناصر تتوفر في أوساطنا، ولا زالت متوفرة بحمد الله، ونُراهن عليها أيضاً، ومن اللازم أن نحافظ عليها قدر الإمكان، فهي نعمة كبيرة.

إن تلك الأنظمة الحاكمة المتسلطة التي ذكرناها تتجاذبها أحيانها بعض السقطات من قبيل التبعية المفرطة للغير، بحيث تنسف هوية الحاكم النظام والدولة. ومن قبيل غياب الرؤى الفاعلة في مؤسسة الحكم، ومصادرة الحقوق الخاصة، وفي كثير من الأحايين في البلدان المبتلاة بالأقليات، سواء كانت أقليات دينية، كالمسيحية وغيرها، أو أقليات مذهبية، كالشيعة في بلد سني، أو السنة في بلد شيعي، فأن يُضطهد الشيعي في بلد سني، أو السني في بلد شيعي أمر واحد، ولا فرق في ذلك، لأن التعامل ليس على أساس الإسلام المطلق، إنما بناء على الإسلام المضاف المقيد الذي أدرجنا فيه حدود الصنمية من حيث نشعر أو لا نشعر.

وهناك همجية أخرى وتخلف من نوع أخرى، وهي همجية الفرد، وذلك ما يتحرك بوضوح في أوساطنا، بل إننا نعيش ذلك أحياناً من حيث نشعر أو لا نشعر. ومواردها أيضاً كثيرة، من قبيل الهمجية في بناء الذات، وهي واضحة بينة، لا سيما في المجتمعات التي رضيت لنفسها أن تكون متخلفة، فترى أن الفرد فيها لا يعرف كيف يبني ذاته، بحيث يسعى لتحقيق أهدافه عبر القوة والتكبر وغير ذلك، وهذا ما لا يستقيم. يقول تعالى: ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظَّاً غَلِيْظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوْا مِنْ حَوْلِكَ([7]). فلم يصل (ص) لما يريد إلا بالتواضع وخفض الجناح للمؤمنين والعطف والمودة والرحمة.

وهنالكم همجية في بناء الأسرة، فالأساس همجي من قبل ولي الأسرة، فتجد أن الولد يريد أن يتزوج مثلاً، ليعصم نفسه، ويحرز ثلثي دينه، ويعيش الاستقامة، ويتطلع للمستقبل، فيواجهه الأب بأن عليه أن يتزوج ابنة عمه أو ابنة خالته مثلاً، وإلا فلا زواج. فماذا نأمل ونرجو من أسرة تبنى على هذا الأساس؟

وليس هذا دعوة مني للابتعاد عن الأهل والأقارب في الزواج، بل إنني على العكس من ذلك، أرى أن يتزوج المرء من أقربائه، شرط أن يكون الزواج على أسس سليمة لا على الإكراه، بأن يكون التوازن الصحي حاصل فيما بينهما، وأن يكون للابن قرارٌ في الموضوع، وكذلك البنت. 

وفي الختام أذكّر بهذا الحديث عن النبي (ص) إذ يقول: «عليكم بالعلم قبل أن يرفع، ورفعه موت رواته، فوالذي نفسي بيده، ليودنَّ رجال قتلوا في سبيل الله شهداء، أن يبعثهم الله علماء، لما يرون من كرامتهم، فإن أحداً لم يولد عالماً، وإنما العلم بالتعلم»([8]).

أيها الأحبة: إننا قادمون على شهر رمضان، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يفتح علينا وعليكم وعلى المسلمين عامة، فتوحات هذا الشهر، بأن يعيشوا قربهم وأنسهم بالله سبحانه وتعالى، وأن يتلذذوا بمناجاته، ويتحركوا مع محكم آياته.

وفقنا الله وإياكم لكل خير، والحمد لله رب العالمين.