نص الخطبة :عوامل تشكيل المرحلة القادمة في ضوء المحبة والتقارب
في الحديث الشريف عن النبي الأعظم (ص): «أكثروا من الصلاة عليَّ في كل جمعة، فمن كان أكثركَم صلاةً عليّ، كان أقربكم مني منزلة»([2]).
بمناسبة قرب ذكرى ميلاد الصديقة الصغرى السيدة الحوراء زينب بنت علي (ع) نبارك لأنفسنا وعموم المؤمنين هذه الذكرى الكريمة على أهل بيت النبوة والإنسانية قاطبة.
عن الإمام الباقر (ع) في وصيته لجابر بن يزيد الجعفي رضوان الله عليه: «واعلم بأنك لا تكون لنا ولياً حتى لو اجتمع عليك أهلُ مِصرك، وقالوا إنك رجل سَوء، لم يَحزنك ذلك، ولو قالوا إنك رجلٌ صالح لم يسرَّك ذلك، ولكن اعرض نفسك على كتاب الله، فإن كنت سالكاً سبيله، زاهداً في تزهيده، راغباً في ترغيبه، خائفاً من تخويفه، فاثبت وأبشر، فإنه لا يضرك ما قيل فيك... »([3]).
الرصيد الثقافي وتقد الأمة:
كل أمة تتقدم أو تتأخر بناءً على مكتسبات الثقافة التي حظيت بها، وبقدر ما يزداد الرصيد في هذا الجانب يرقى المجتمع والأمة، وبقدر ما ينخفض المنسوب في هذا المخزون، تتداعى أركان الأمة وتتهالك، حتى تسقط في الهاوية.
والثقافة الدينية ذات أصول عقدية ثابتة أسسها النبي الأعظم محمد (ص) وقوي استحكامها بناءً على تلك الأسس والقواعد، وعندما نرجع إلى ذلك الموروث الكبير الذي أصّل له الرسول الأعظم (ص) في هذا الجانب، نجد أنه تكفل الكثير من احتياجات الأمة مهما تطاول العهد ومهما بعدت الشقة، والسر في ذلك أن الرسالة خاتمة، وحيث إنها اتصفت بهذه الصفة فلا بد أن تكون قد استجمعت حين تأسيسها جميع الأسس والقواعد التي على أساسها تحقق الثبات مع الإبقاء على حالة المرونة، لأن المجتمع يحكمه الكثير من التجاذبات، كما أن الأمة في دائرتها الكبرى تتقاذفها الأمواج بين الفينة والأخرى، ولو كانت الرسالة بنيت على أساس اللامرونة، أو أنها لم تأخذ بعين الاعتبار الأحكام الثانوية، لما استطاعت أن تأخذ بيد الأمة إلى الصفوف المتقدمة بين سائر الأمم، لذلك فإن ما تقدم به الإسلام كان على أساس من التنظير والتطبيق العملي لذلك المعطى أكثر مما حققه السيف والدماء التي سالت في أكثر من مكان ومكان في عهد الرسالة الأول.
إن الإسلام هو رسالة السلام والسماح والمحبة والإنسانية، وبناء على هذا فإن النبي (ص) يعني ما تعنيه هذه الصفات مجتمعةً.
هذا ما يتعلق بالثقافة الدينية.
العقل النوعي والشخصي:
ثم يأتي العامل الثاني وهو العقل الذي يتحكم بتلك الحركة، ويوجّه السلوك العام للبناء على هذه الأصول الثابتة، دون زيادة أو نقيصة. ولا نعني بالعقل ما يسعى لإلغاء سائر العقول، لأن العقل الذي يحاكم عقول الآخرين، ويحاول إلغاء ما لها من صلاحيات إنما هو العقل الشخصي. فهذا العقل متى ما استحكم فهو يعني القتل والدمار والمحاربة وغير ذلك، كما هو حال الحكام الظلمة الذين تعاقبوا على رؤوس الأمة عبر مراحل التاريخ الطويلة. فالحاكم عندما يظلم فإنه يعطل العقل النوعي العام من حوله، ويسير وراء استنتاج عقلي شخصي صرف، حتى لو استعان بالمستشارين المتخصصين من حوله، لأن هؤلاء يحكمهم ذات الواقع من حولهم، وهو واقع العقل الشخصي.
لذلك تجد أن أكثر الأنظمة تقدماً في العالم هي الأنظمة المنفتحة عقلياً على العكس مما لو كان النظام متحجراً يبني مساره على أساس من قواعد موروثة نظّر لها العقل الشخصي، ولم يُرد لها الحاكم بعد الحاكم أن تُفكَّ عنها القيود، لتحلق في الفضاء من حولها.
وهذا الصنف من العقل لا ينحصر فقط في دائرة النُّظم التي تسيس حركة العالم اليوم، بل حتى في أسرنا ومجتمعاتنا ودوائر عملنا، فعندما ينفرد رب الأسرة في تخطيط واستنتاج عقله الصرف، أو عندما يصبح محكوماً في الدائرة لعقل المدبر الواحد، كالمدير العام، أو في المدرسة، أو في أي مساحة من المساحات، تجد أن القافلة تسير، وقدرها من الدنيا أن تسير، لأن الليل والنهار يسيران وإن وقفنا، لكن المسيرات تختلف الواحدة عن الأخرى، فأن تُسيِّر الأمور وفقاً لإرادةٍ يختلف عن تسييرك إياها خارج دائرة الإرادة والتصرف من قبل من يمسك بزمام الأمر.
فالأسرة تبتدئ ثم تنتهي، وبين هذا وذاك مراحل، من التربية والدراسة والزواج وغيرها، لكن مما لا شك فيه أن أسرةً تختلف أخرى، وبيتاً يختلف عن بيت، وقبيلة عن مثلها، وأمة عن أخرى. فالأمة تمتاز بسيرها، وهديها، وسلوكها وأخلاقها، ورصيدها الحضاري، ومتى ما تداعى ركن من هذه الأركان الأربعة يعني أنها بدأت بالانحدار، وقد طوى التاريخ الكثير من الأسماء والعناوين التي كانت تشير في يوم ما إلى أُسَر علمية وأدبية وفكرية ذات سلطة على الأمة، وبقيت تلك الأسر بقدر ما تعاطى به أبناؤها مع دائرة القدر.
الأمة تواجه التحدي:
أيها الأحبة: الصراع الذي يلف وسط الأمة اليوم، أريد له أن يشرذم الواقع المجتمعي في الأمة إلى آحاد ما أوتي إلى ذلك سبيلاً، فقد يتدخل مباشرة، وقد يحرك الأجندة هنا أو هناك، والأمة تعيش سباتاً، قد لا تستيقظ منه إلا بعد فوات الأوان، لذلك تغيب دول من المسرح العالمي لتأتي على أكتافها دول أخرى، فأين يكمن الخلل؟
إنه يكمن في زاوية واحدة، هي أن رب الأسرة أو الدولة أو القبيلة أو العشيرة لم يلتفت إلى كينونته الداخلية، وكم يحمل في داخله من صفات إيجاب، تشكل الضمانة والحصانة للبقاء والاستمرار، وكم في داخله أيضاً من نقاط السلب التي تكون من الممهدات للسقوط والغياب عن المشهد.
وقد التفت العلماء الأعلام من المسلمين، المخلصين للإسلام، من أبناء الشيعة والسنة، إلى مكمن الخطر مع بدايات القرن العشرين، ونحن الآن في بدايات القرن الحادي والعشرين، فنذر جمع من هؤلاء أنفسهم أن يوجدوا حالة من الصدِّ أمام ما يراد له أن يكون ضربة قاضية لهذا الواقع والنسيج الإسلامي الموحَّد، فقد ابتدأوا بالتقسيم الجغرافي، ثم السياسي، ثم انحدروا إلى الفكري، وأرادوه أن يكون عقدياً أيضاً.
اتجاهات في تصور الوحدة الإسلامية:
وكان علماؤنا، ومن ورائهم أيضاً جمع من الحكام الذين تلمسوا خطورة الوضع، قد تحركوا إما على نحو التأسيس أو على نحو الدعم والتحريك من وراء الكواليس، وكان لهذا المسار أنصاره وأقطابه، ولذلك أنصاره وأقطابه.
فالمسار الأول مثّل مسار الوحدة السياسية بين الدول، أي وحدة النُّظُم الحاكمة، كالممالك والجمهوريات والإمارات وغيرها، ورموز هذا المسار والقائمون عليه هم القادة السياسيون بالدرجة الأولى، ومنظمة المؤتمر الإسلامي تمثل المرآة لأصحاب هذا التوجه، ونحن
ـ كأتباع أمة ـ تعنينا هذه المنظمة وتعني لنا الكثير، ولكن كم أعطيناها من مساحة قراءتنا لنقف على معطيات هذا العنوان الكبير الذي مرت عليه مجموعة من العقود مذ أن تشكَّل؟ وهل أن أسباب التشكل وأهدافه ونتائج ما بعد التشكل مجدية؟ وهل هو عقيم أو ولود؟ وهل أن فيه صلاحاً أو على حساب مصالح الأمة؟ إنها مفردة تمرُّ بنا ونتجاوزها وكأنها لا تعنينا من قريب ولا من بعيد.
إن واجهة هذا المسار هي منظمة المؤتمر الإسلامي، وهي تُعنى بوحدة الأنظمة السياسية، إلا أن هذا لا يعني أنها لا تُعنى بشؤون أخرى، ولكن الميزة البارزة التي تشغل الواجهة هي ما يعني جانب الحكومات والدول.
أما المسار الثاني فهو مسار وحدة الشعوب الإسلامية، والرغبة في وحدة أبناء الأمة الإسلامية، وهو مبني على أساس مهم، ألا وهو نبذ الخلافات العالقة بالموروث، فهناك خلافات موروثة، والاستكبار العالمي يعمل اليوم بكل طاقته الممكنة في سبيل تفعيلها والاستفادة منها بأكثر من لباس ولباس، دون أن نشعر أو نلتفت، فأحياناً تحت شعار الحرص على شعائر أهل البيت (ع) إذا أراد أن يتناغم مع المسار الشيعي، وأحياناً بالعكس، فتتاح الفرصة أمام المتشددين عقدياً، والمتمظهرين بثوب إبراز الشعائر من خلال القنوات المفتوحة دون حساب أو كتاب.
وإلا فمن حقنا أن نتساءل: لماذا نجد أن القناة التي تسافر بالفكر العقلاني محاصرة، إذا كان الصوت عقلانياً تحقيقياً؟ ولا تستطيع تلك القناة أن توصل صوتها إلا في أضيق الدوائر؟ بينما تقدم القناة الأخرى نتاجاً هزيلاً، لا يحمل سوى الشحناء والبغضاء بين المسلمين، فنجد أن حالة التبني موجودة، كما هو الحال في قناة أهل البيت وفدك.
أما عند الطرف الآخر، وهم أبناء السنة والجماعة، فنجد أنهم كإخوانهم الشيعة، تتقاسمهم فئتان: المتشدد عقدياً، والمنفتح المتنور الذي يدعو بالتي هي أحسن. فالأول يريد أن يمارس دوره، ويتخبط باستثمار الوضع المفتوح من حوله لبعثرة الأوراق، وهذا يحتاج الكثير الكثير.
فكما أن في الشيعة مساراً عقَدياً متشدداً، فهناك لدى السنة مسار مثله، وهو من المسارات المزروعة، فلم تحتضنه حضانة سليمة، إنما احتضن بعد أن فُرِّغ، ثم ألقي كجسد غريب في وسط الأمة. وهؤلاء ليسوا أبناء اليوم، إنما هم أبناء ذلك التاريخ الموروث، وهناك محاولة لإعادة الاستنساخ من جديد لجماعة الخوارج، الذين لم تقف سيوفهم من قطع رقاب المسلمين، لا على أساس أنهم شيعة أو سنة، إنما على أساس ما كانوا يحملون من عُقد داخلية. ودونكم التاريخ، فإننا إذا ما استثنينا فترة الاستئصال في ما تواكَب مع علي (ع) بعد حرب النهروان، نجد أن من ذهب ضحية سيف الخوارج من أبناء السنة والجماعة كان أكثر من غيرهم.
وهذا التيار الخوارجي تمثله اليوم بعض قنوات الفتنة كقناة وصال وصفا وأمثالها.
إن هذه الظاهرة من الشدّ، إذا لم يتدخل في إصلاحها أصحاب القرار من الجهتين في الصف الإسلامي، من الشيعة والسنة، فإن المخاطر آتية لن تبقي على أحد ولن تذر. فربما نتفرج اليوم على تلك القنوات، وقد يأنس البعض بما يجده فيها، لكن ماذا ستكون النتيجة.
لذا نناشد أصحاب العقل والحكمة والرأي والتروي أن يبدوا نظرهم في هذا الجانب، سواء كان من مرجعيات الطائفتين، أم من يملكون قراراً خارج إطار المؤسسة الدينية، كما أن أصحاب القرار السياسي لا ينبغي أن يعيشوا موقف التفرج على ما يجري، لأن الخطر محدق بالجميع، فالمجتمعات عندما تدخل في حالة من الإرباك والزعزعة وعدم الثقة والاطمئنان، ستكون عرضة للقضاء عليها، وهو ما قضى على الدول والجماعات في الزمن السابق، فما أسقط الدولة الأموية والعباسية والعثمانية وغيرها من الدول، كان سببه عدم المبالاة في بدء الأمر، والسكوت حتى تصل الأمور إلى حالة اللاعودة.
إن هذه الوحدة التي أريد لها أن تحفظ المسار الإسلامي، لم يكتب لها النجاح كسابقتها، فالمسار الأول كان مسار أنظمة ودول، ولا يمكن لأي دولة أن تعطي قيادها لدولة أخرى إلا وفق مصالح معينة، مع حفظ العنوان الانفرادي، أما المسار الثاني المتعلق بالشعب، فهو مرتبط بالدول والحكومات أيضاً، فلا حكومة ولا دولة بلا شعب، فلو ذابت هوية الشعب الخاصة من قيم وأفكار وموروثات، فُقدت خصائصه التي بنيت عليها الدولة، وبالتالي فإن الدول لا ترغب بذلك.
ثم طرحت نظرية الوحدة بين المذاهب بعنوانها الأكبر، وهي تعني فيما تعنيه إسقاط جميع المذاهب الموجودة، فلا جعفرية ولا زيدية ولا إسماعيلية ولا شافعية ولا غيرها، فينبغي أن تُلغى تلك العناوين كلها، ليستبدل بها اسم واحد هو الإسلام.
وفي هذا الخصوص تعالت في الأربعينيات والخمسينيات الهجرية صيحات لها أنصارها إلى يومنا هذا، إلا أنها لم يكتب لها النجاح أيضاً، ومن الطبيعي أن يدرك المرء النتيجة في عدم اتحاد هؤلاء على مذهب واحد. بل الأكثر من ذلك أن من يقفون أمام مشروع الوحدة بين أبناء الأمة الإسلامية داخَلهم الشكّ والريبة بناء على هذا المسار الثالث، بمعنى أننا عندما نرفع شعار الوحدة الإسلامية ونحن شيعة مثلاً، فهذا يمثل في نظر الآخرين إلغاء مذاهب أهل السنة، وكذلك العكس، فعندما يدعو أهل السنة إلى الوحدة يمثل في نظر غيرهم إلغاء مذهب الشيعة، والتخلي عن الحسين (ع) وشعائر المذهب وشعاراته.
وحقيقة الأمر لا هذا ولا ذاك، فلم يرد أصحاب هذا المسار إلغاء مذهب من المذاهب، إلا أن قراءته الأولية مع العنوان المفتوح تعطي هذا الانطباع المأساوي. فأصحاب هذا المسار أرادوا للوحدة أن تكون على مستوى العقائد والفقه على أساس المزج والتذويب بين المعطيات المتوفرة لكل مذهب، دون إلغاء أيٍّ منها.
وهناك مسار رابع وهو الأكثر نضجاً، ويتمثل بالتقريب بين المسارات العقدية والفقهية لكن في حدها الأدنى، بمعنى جمع المشتركات المذهبية للاجتماع عليها، وتجميد نقاط الاختلاف، كي لا تكون هي الأساس، فما نجتمع عليه أكثير بكثير مما نفترق عليه، فالرب واحد، والدين واحد، والنبي الذي جاء بالرسالة هو نبي واحد خاتم للأنبياء، وهو نبينا محمد (ص) . نعم، يبدأ الافتراق من الإمامة.
ولو أن أتباع الفريقين تعاملوا مع هذا المسار تعاملاً عقلياً لما وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه، مع احتفاظ كل طرف بما يعنيه، فلا علماء السنة يفتون بوجوب دخول الشيعة في منظومتهم، ولا علماء الشيعة يفتون بدخول السنة في منظومتهم، بل إن هذه القضية من قبيل التكليف بما لا يستطاع، فالشيعي لا يمكن أن يكون سنياً، والسني لا يمكن أن يكون شيعياً، ولو حدث ذلك فهو في حدود ضيقة. إلا أن الأهم من هذا وذاك، هو أنَّ ما نجتمع عليه ابتداءً وهو الوحدانية لله تعالى، وما نتهي إليه وهو وقوفنا على صعيد واحد بين يدي الله تعالى، هو حجر الزاوية في القضية كلها، فلماذا نجعل مما ألقي في دواخلنا ممن لم يفقه التشيع ولا التسنن سبباً في الفرقة والتقاتل والتناحر والتدابر، حتى بات الغرب والشرق يقتل المسلم بالمسلم وهو يتفرج عليهما معاً.
فلا العزاء على الإمام الحسين (ع) عند الشيعة يشكِّل سبباً للفرقة، ولا صلاة التراويح عند السنة تؤدي إلى ذلك، وكذلك التكتف في الصلاة وعدمه، فهذه مسألة فقهية ليس من المعقول أن تكون طاحونة للأمة. فكثيراً ما نرى أن دائرة العقل عندنا تتضيق حتى تصل إلى هذا المستوى.
نعم، هنالك في المذهب الشيعي مجموعة من العوامل أعطته حالة من التميز، ومن حق الشيعي أن يطرح مقومات التميز عنده، وكذلك على السني إذا كان يمتلك رصيداً في هذا الجانب أن يبرزه وفق الدليل، لا على أساس التسفيه، فلا يحق للشيعي ولا السني أن يسفّه أحدهما الآخر، فعلى كل منهما أن يبين الأسس التي بنى عليها مذهبه، ويترك للعقل مساحته في الاختيار، أما الرموز فينبغي أن تُحفظ (في حدود من يحترمها).
مميزات مذهبنا:
فمن العوامل المميزة للمذهب الشيعي وجود المرجعية التي يستند إليها في تكوُّنه، وهي عبارة عن النص الشرعي الصادر من محمد (ص) وعلي (ع) وأبناء علي حتى الخلف الهادي من آل محمد (عج). ففي موروثنا جعفر الصادق (ع) وعلي الرضا (ع) وأمثال هذه الأسماء، وهذه حالة من الامتياز عندنا، لاعتقادنا أن هذه السلسلة معصومة، وقد استمر النص الشرعي عندنا معصوماً من الزيغ والانحراف والوضع والتدليس والتصحيف والتقطيع والمتاجرة من قبل سلاطين الجور آنذاك، أكثر من مئتي سنة بعد وفاة النبي (ص) وكان المعصوم (ع) يؤمِّن هذه الخصوصية.
أما الطرف الآخر فلديه ركيزة يبني عليها أسسه، ولها رموز أيضاً، ويجب احترام تلك الرموز في حدود ما يراه الطرف الآخر، لأن من أراد أن يُحترم فعليه أن يَحترم، فاحترامنا لشخصٍ ما لا يعني أنه صكّ غفران إلى الجنة، كما أن نيل الآخر من رمز من الرموز لا يعني أنه التذكرة المباشرة لقعر جهنم، فلا أنا ولا أنت ولا أيِّ مخلوق في الدنيا يملك خيار الجنة والنار، إنما ذلك بيد الواحد القهار.
والأمر الآخر الذي يميز مدرسة أهل البيت (ع) أن الظروف التاريخية اعترضت مسيرتها، فكانت المعاناة ونهب الأموال وحرق الدور وانتهاك الأعراض وإزهاق الأرواح، فما أطبقت السجون على أتباع فرقة من فرق الإسلام كما هو الحال في أتباع مدرسة أهل البيت (ع). ففي فتوى واحدة لأحد الفقهاء في الشام يوماً ما، أريق دم خمسة وأربعين ألف نفس، وقيل سبعون ألفاً! على مذبح المسجد الأموي، حتى تعكّر ماء بردى!.
فالموروث في غاية الصعوبة، يبتدئ من أعماق التاريخ، كما هو الحال مع الزهراء (ع) والمشهد المأساوي الذي شكّل ظلامة تلاحق أتباع هذا المذهب، ثم يأتي الإمام الحسين (ع) في صورة ملحمية لم يعرف لها التاريخ مثيلاً.
وهناك أمر ثالث في هذا المذهب، وهو تعدد الطرق وتنوعها في ميدان الصراع الفكري، فلم تنغلق مدرسة أهل البيت (ع) يوماً على نفسها، كما يراد لها اليوم أن تنغلق في داخلها، فقد كان الكثير من علمائنا ـ ولا زالوا ـ منفتحين على الرأي الرأي الآخر، ولك أن ترجع إلى مقررات الشيخ المفيد وأمالي الشيخ الصدوق والمدرسة الحلية وغيرها، حتى تصل إلى العصر الحديث، فالكل كان منفتحاً، ولكن هناك مجموعة قليلة لم تجد لها موقعاً إلا في هذه الإثارات.
كيف نعالج الإشكاليات؟
أما حلُّ تلك الإشكاليات فيكمن أولاً في معرفة الآخر، وكذلك معرفة العدو الأول للأمة الإسلامية الذي يريد بنا دائرة السوء، وعلى مستوى أبناء الطوائف، من حق أبناء كل طائفة أن يتفحصوا نقاط الضعف من حولهم، لأن الهدف الأسمى هو الإسلام، والبقاء للإسلام.
وهذا المسار في معرفة الآخر بقدر ما هو مهم إلا أنه يحتاج إلى مجموعة من المقدمات التي لا يتسع الوقت لذكرها.
وبعد معرفة الآخر يأتي دور إنصافه، فعلينا أن لا نقرأ من الكأس المساحة الفارغة، فليس هناك ما هو سيئ بالمطلق، ولا ما هو حسن بالمطلق، وليس هناك معصوم إلا من ثبتت له العصمة. وبناء على ذلك لا بد من قراءة الجزء الممتلئ من الكأس أيضاً قبل قراءة الفارغ، فمن غير الصحيح أن أقول: إن الكأس فارغة.
فإذا عرفنا الآخر وأنصافناه نصل إلى المرحلة الأخيرة، وهي كيفية التعامل معه. فمن يراهن على غير التعاون فهو مخطئ، ومن يريد أن يناجز طرفاً في مساحة صراع وهو لا يملك الآلية الموصلة للهدف فهو مخطئ وعليه أن يراجع الحسابات.
أين وكيف نلتقي؟
أما ما هي المجالات التي يمكن أن نلتقي عليها ونستفيد منها في سبيل إحكام حلقة الطوق الإسلامي من حولنا، ورد غائلة الاستكبار الذي يريد أن يفتت أعضاء هذا المجتمع؟
إنها تتلخص بما يلي:
1 ـ الجانب الأدبي: فنحن نملك من القوى في هذا الجانب الشيء الكثير، فقد بتنا اليوم نحصد الجوائز الواحدة تلو الأخرى، وأصبحنا الشغل الشاغل للآخرين في مساحة الأدب.
2 ـ الجانب العلمي. 3 ـ الجانب الاقتصادي. 4 ـ الجانب الفكري. 5 ـ الجانب السياسي.
إلى غير ذلك من الجوانب التي يمكن أن نفعِّلها على بساط واحد.
وأما من يقوم بتقديم الوجه الناصع للطائفة؟ كلٌّ يدّعي وصلاً بليلى، حتى صاحب قناة فدك وقناة أهل البيت وغيرهما يدّعون أنهم يقدمون مدرسة أهل البيت للآخرين، وربما يتناغم معهم ظلُّ طيفٍ هنا أو هناك.
وهنالك من هم أمناء على الأمة، وهم المراجع والقادة في أكثر من مكان، فهؤلاء يرون أنهم الأكثر قرباً من هذا الأمر.
فالجماعة الأولى هي الجماعة السياسية التي تتسيد المشهد السياسي في واقع الطائفة، فهؤلاء يرون أنهم أولى من يمثل هذه المدرسة.
الجماعة الثانية هم أصحاب الفكر الضيق والمسار الرجعي المتمظهرون بصفة القداسة، فهؤلاء يدّعون أيضاً أنهم أولى من غيرهم في أن يسيروا بقافلة هذه الطائفة، أو الدين بشكل عام.
الجماعة الثالثة: أصحاب الانفتاح الفكري، وهذه الصفة تم استثمارها واستغلالها مع شديد الأسف خارج دائرة ما أريد منها، لذا يحارب المرء على أساس أنه منفتح، فيجعلون من المنفتح علمانياً أو لا دينياً، في حين أننا نعني بها المنفتح على النص الديني.
الجماعة الرابعة: أصحاب المدرسة الاستشرافية، وهم عبارة عن نخبة من أبناء الأمة كرجال دين وغيرهم، ممن يقرأ ما وراء السطور ويتصفحون الوجوه فيخلصون إلى نتائج يرغبون أن تكون السبيل الأقوى للوصول إلى الهدف.
الجماعة الخامسة: القادمون من وراء الأحداث، وهم الطبقة النفعية الذين ابتلي بهم المجتمع، كما ابتلي بهم الرسول الأعظم (ص) فكانوا إذا انتصر النبي (ص) كما في بدر، طالبوا بالغنائم، وإذا انهزم جيش المسلمين كما في أحد انحرفوا عن المسار لغير المسلمين.
وهكذا إن رأى بعضهم أن الطائفة تقدمت قال: إنني كنتُ من أسباب التقدم، وإن تعثرت قليلاً قال: قلنا وقلنا فلم يطيعوا أمرنا.
ونسأل من الله تعالى أن يأخذ بيد أتباع هذه الأمة الطيبة المباركة بنبيها الأعظم محمد (ص) إلى ما فيه الخير والصلاح، والحجمد لله رب العالمين.