فرحة الزهراء وأهداف المناسبة
في الحديث عنهم عليهم السلام: «ما في الميزان شيءٌ أثقلَ من الصلاة على محمد وآل محمد، وإن الرجلَ لَتوضعُ أعمالُه في الميزان فتميلُ به، فيُخرجُ (ص) الصلاةَ عليه، فيضعُها في ميزانه فَيرجَحُ به» ([2]).
يوم جديدٌ عظيم مبارك يُطلُّ علينا، وهو اليوم الذي أسندت فيه الإمامة الحقة للخلف الباقي من آل محمد (عج). فأهل البيت (ع) نور واحد، مبدأُه نور النبي محمد (ص) وخاتمته نور الخلف الباقي من آل محمد (عج). وبين النورين أنوار هي محمد وآل محمد (ع).
يومٌ مضى علينا، هو محطةٌ قدسيةٌ تستدعي التوقف طويلاً. ولنسأل أنفسنا: ما الذي تعنيه لنا هذه المناسبة؟ فالأئمة (ع) مفترضو الطاعة على البشرية مطلقاً، فمن قَبِلهم بقبول حسن فهو له، ومن لم يقبلهم فعليه، ولكن من حقنا أن نُظهر الفرحة والسرور، وأن نعيش الذكرى كما ينبغي، فالدليل على ذلك دليل عام، هو إحياء الشعائر، فإن أدلتها المضافة لأهل البيت (ع) في المعظم أدلة عامة، إلا في بعض المحطات التي وردت فيها نصوص خاصة.
فشيعة أهل البيت (ع) وأتباعهم، منذ وفاة النبي الأعظم (ص) وانتقال الأمور للمولى علي (ع) وهم يعيشون ذكريات أهل البيت (ع) لكنها تأخذ الكثير من الأشكال والألوان في إبراز الأحاسيس والمشاعر الجياشة، ويتطور الأسلوب بقدر ما تتطور القاعدة الجماهيرية التي تتبنى الشعيرة.
وللثقافة دور بارز في أخذ الجمهور إلى مسافات بعيدة من التنوير، مما يستوجب دفع العجلة إلى الأمام، لتأخذ القاعدة الجماهيرية مسيرها الطبيعي باتجاه الهدف.
وكذا للعامل الاقتصادي دور هام، في الرفع من شأن مظاهر تلك الشعائر، فلا يمكن أن نتصور شعيرة يمكن أن تأخذ حقها الكافي ما لم يكن هنالك رافدٌ اقتصادي كبير. فتعرقلُ الواقع الاقتصادي وسط الأمة يكبو بالشعيرة، لأن لكل شيء في الحياة وقوده، وهنالك قوى دافعة في أكثر من مكان ومكان، يشكل عامل الاقتصاد العمود الفقري فيها.
وخير دليل على ذلك ما جرى للنبي (ص) بفعل العطاء اللامحدود على يدي أم المؤمنين خديجة (ع). فلا يمكن أن نتصور أن حركة الإسلام تشق طريقها بكل قوة واقتدار ونحن ننتزع منها هذا العامل، وهو عامل الاقتصاد المؤمَّن من قبل تلك السيدة الجليلة.
وبالمناسبة أقول: إن هذه الليلة ـ على بعض الروايات ـ هي ذكرى زواج النبي (ص) من أم المؤمنين خديجة (ع).
إن الاقتصاد اليوم يحرك العالم، فكيف لا يحرك الشعيرة؟
وكذلك الواقع الاجتماعي السليم الذي يحركه الإيمان وقوة الارتباط وحب التمظهر بنورانية أهل البيت (ع). لذلك عندما لا تكون هنالك ثقافة، فإن الصورة تبقى نمطية، يجترّها الجيلُ بعد الجيل الذي قبله، دون أن يقدم إضافة تُذكر.
فالواقع الاجتماعي المشفَّر بأسرار الإيمان وقدسية الشريعة له أثره، فأن يكون المال موجوداً، والثقافة حاضرة، غير كافٍ دون خاصية الإيمان.
وبطبيعة الحال، إن حركة تعظيم الشعائر لم تبلغ رشدها بالقدر الكافي، لأن ثمة مفارقة بين التمظهر بالشيء، وبين أن يعيشه المؤمن واقعاً.
إن ذكرى تتويج الخلف الباقي من آل محمد (عج) ـ أو ذكرى فرحة الزهراء (ع) كما يحلو للبعض أن يطلق عليها ـ هي واحدة من المناسبات العظيمة. فالإمام المهدي (عج) ودّع هذا الوجود من خلال غيبتين: صغرى وكبرى، والأمة في مسيس الحاجة أن تعيش معطيات هاتين الغيبتين، ومع شديد الأسف، نحن لا نتعاطى هذه الذكرى إلا من خلال الشكل الظاهري في كثير من الأحيان، وهكذا ما يتعلق بالكثير من المناسبات. والأمة الإسلامية لو عاشت نبيها بما يتوافق وواقع النبوة المنحلّ عن معرفة حقيقية، لما تطاولت تلك العناصر الخبيثة في غرب الأرض اليوم، لتنال من شخص النبي (ص) ولكن، حيث إن الأمة في طابعها العام لا تتعاطى النبي (ص) والرسالة إلا في ضمن تلك الحدود الضيقة، فقد حصل ما حصل ويحصل.
إن هذا الزمن يختلف عن الزمن الذي عاشه الأجداد، ولا أظن أن ثمة أحداً يعاند أو يكابر في قبول هذه الحقيقة. فقبل سبعين أو مئة سنة، عاش الجيل المنصرم الذي لم يبق منه الآن إلا متفرقات هنا وهناك، شهوداً على مرحلة مرت بها الأمة أو الطائفة.
ولكن، بنظرة سريعة، وموازنة سريعة، يخلص المرء إلى مجموعة من الأمور، فبالأمس كانت ذكرى تتويج الخلف الباقي من آل محمد (عج) لا موضوع لها ولا حراك في أوساطنا، ولكن قيض الله للأمة فقيهاً جليلاً قائداً مرشداً نفث الروح في هذه الشعيرة من جديد، حتى باتت اليوم تسيطر على المساحة العظمى من أجواء المناسبة.
ففي الزمن الماضي كانت فرحة الزهراء (ع) أيضاً، لكنك عندما تسأل: على أي أساس تُبنى هذه المناسبة؟ وهل أن قواعد تقديم هذه المناسبة تتناسب وقدسيتها أو لا؟ فتجاب بأجوبة غير ما هي عليه اليوم.
وقبل مئة عام، عندما يسمع السامع عن تتويج الإمام الحجة، فإنه لا يكون معنياً بذلك. أما اليوم فأصبح اليوم التالي لوفاة الإمام العسكري (ع) يوم فرح وسرور، بذكرى تنصيب الإمام الحجة (عج)، ومن يُظهر الفرح والسرور في هذه المناسبة فلا شك أن له أجراً وثواباً.
إلا أن الإمام المنتظر (عج) يراقب المسافة التي بيننا وبينه، ومن صفاته أيضاً أنه يقرأ آحاد الأمة، ما لهم وما عليهم، في مسيرة الخط المهدوي، فمما لا شك فيه أن ما لم يتحقق على أيدي الأنبياء والرسل والكوكبة التي مضت من أهل البيت (ع) إلى جوار ربها، فسوف يتحقق حتماً على يد المهدي (عج) ؛ لأنه الوعد القرآني، ووعد السماء، وأعني بذلك العدالة الكبرى والمطلقة، فالبشرية لم تعش العدالة بصفتها الكبرى، ولن تعيشها إلا على يد الخلف الباقي من آل محمد (عج).
وهذا الأمر يحتاج إلى مقدمات وحراك واستعداد، فكل منا يقول: اللهم عجّل لوليك الفرج، لكن تعجيل الفرج لا يكون بمصلحة جميع الأفراد دائماً، فالله تعالى أعلم حيث يجعل رسالته، فقد غيّبه لمصلحة، وعندما يأذن له فلا يأذن إلا لمصلحة خفيت عنا، لكنها بالجعل الأول معلومة عنده سبحانه وتعالى.
ولنسأل أنفسنا سؤالاً صريحاً مباشراً: لو أن الله تعالى أذن للخلف الباقي (عج) بالحركة في هذا الوقت، فكم منا من ليست لديه مشكلة مع عائلته، أو أهل بيته، أو جيرانه، أو مجتمعه، أو مع ربه، أو مع المهدي نفسه؟
يقول النبي (ص): «كم من قارئ للقرآن والقرآن يلعنه»([3]). فكم منا من يضع يده على رأسه ويقول: اللهم عجل لوليك الفرج، وهو يعلم ما تنطوي عليه سريرته؟
بعض الناس قد يتصور أنه يرحب بالمهدي (عج) في أي ساعة يظهر فيها، وأنه لا مشكلة له معه، لكن هذا خلاف الحقيقة والصواب. ففي الحديث الشريف عن أمير المؤمنين (ع): «كم من صائمٍ ليس له من صيامه إلا الجوع والظمأ، وكم من قائمٍ ليس له من قيامه إلا السهر والعناء»([4]).
وفي الحديث أيضاً عن أبي عبد الله، الإمام الصادق (ع): «لا تنظروا إلى طول ركوع الرجل وسجوده، فإن ذلك شيٌء اعتادَه، فلو تركه استوحش لذلك، ولكن انظروا إلى صدق حديثه، وأداء أمانته»([5]).
هذه كلها مظاهر، يُشترط في قبولها النية الصالحة، والقلب السليم. ففي الحديث أيضاً عن النبي الأعظم (ص) أنه قال: «إنَّ في الجسد مُضغةً إذا صَلَحت صَلَحَ الجسدُ كلُّه، وإذا فَسَدَتْ فسدَ الجسدُ كله ألا وهي القلب»([6]).
فهناك من يدعوك، ويكرمك، ويدعو الآخرين لحضور الوليمة، ويبالغ في الترحيب، لكنه كما قال الشاعر:
يعطيك من طرف اللسان حلاوةً ويروغ منك كما يروغ الثعلبُ
أو كما قال الآخر:
نعيبُ زمانَنا والعَيبُ فينا ومَا لـزمانـِـنا عيبٌ سوانا
ونهجو ذا الزمان بغير ذنبٍ ولو نطق الزمانُ لنا هجانا
وليس الذئب يأكل لحم ذئبٍ ويأكل بعضنا بعضاً عَيانا
فلو أن الأمة كانت خالصة النية مع المهدي (عج) لما تأخر لحظةً واحدة في الظهور. فعلى الأمة جميعاً أن تصحح مسارها، من المؤسسة الدينية، إلى عموم الناس، وإلا فإنه سوف يبقى حتى تمتلئ ظلماً وجوراً.
فعن الإمام الحسن (ع) أنه قال: «لا يكون هذا الأمر الذي تنتظرون حتّى يتبرّأ بعضُكم من بعض، ويلعن بعضُكم بعضاً، وحتّى يبصق([7]) بعضكم في وجه بعض، وحتّى يشهد بعضكم بالكفر على بعض»([8]).
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم ممن يعيش المناسبة، والأهم من ذلك أن نستنير بهدي المهدي وآل محمد (ص).
والحمد لله رب العالمين.